Quantcast
Channel: يرجع الصوت المسافر
Viewing all articles
Browse latest Browse all 362

سقوط

$
0
0



سقط صديقنا من منتصف الجبل لسفحه.

في الصباح، أول ما وصلنا وقالوا سنصعد هذا الجبل ، حاولت الوصول لأوله حتى فلم استطع. تملكني خوف شديد، حاولت مرة واثنتين فلم استطع مطلقًا، نزلت وجلست بجوار السيارات أو بداخل إحداها، حتى يتملكهم الملل وينزلوا. لاحقًا، حكى لنا الولد الجميل بعد تشهّدات عدة وحمدٍ لله، أنه كاد يموت، وانكتب له عمر جديد، ولولا الصخرة التي احتضنها بعنف حتى آلمته ضلوعه لأكمل سقوطه لينزل أمامنا ميتًا. حكت صديقتان شيئًا مشابهًا، وأرانا ثالث جرح بكفه عن تثبّث بالأرض كيلا يقع. جميعهم كانوا سعداء غير نادمين.
قلت لنفسي، في ساعات انتظارهم الطويلة بأسفل، أن من يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر. نفت نفسي هذا جدًا وقالت لقد نزلت يوم 28 من وراء أهلي جميعًا، وواجهت الخطر وحدي. أكّدت في حماس هذا المدخل، إذ إني اذهب للمظاهرات والاعتصامات وحدي، اتجه لمناطق الضرب، وحدي أيضًا. كنت أعبث بحذائي في الأرض محاولة البحث عن زلط جديد اضمه لمجموعتي، فنهرت نفسي بشدة واستنكرت ما أفعله، وكأنما أبت كرامتي علي أن ابحث في الأرض بينما اصدقائي فوق التبة يتمتعون بالمنظر، ويهنئون أنفسهم على شجاعتهم بالوصول لهناك. قلت أيضًا أني من ساعة ما بدأت العلاج وأنا جبانة، اتراجع عن الاقتحام وأجبن عنه. ساعتها بدأ الألم.

صرخ عاليًا بآهات طويلة معذِبة، جرحت أذني ووضعتني على أول النوبة.

هرعت للمنزل. قلت لصديقنا الثالث الذي أوصلني أن المشي سيفيدني، غير آبهة بالمناشير التي تنخر في ساقي. أصررت على النزول قبل منزلنا بفترة كافية، اشتريت عصيرًا ولبنا بالشوكولاتة وماءً، الكثير من الماء. كنت في السيارة أكاد اموت على قطعة شوكولا. أحصيت ما بالمنزل: اثتنان بالدرج الأعلى، محشية شوكولا سائحة. واحدة نصف مأكولة بجوارهما، بالبندق. ثالثة بالدرج الأسفل، باللوز. واحدة بجوار السرير بالزبيب، واثنتان فوق المكتبة بالفراولة. لماذا إذن بحق الله، بحق السموات، بحق كل المقدسات، لا اصطحب معي واحدة لتساعدني عند بداية النوبة؟ 
دخلت المنزل كإعصار وأعطيت موجز أنباء لاختي فقط، وتوجهت للحمام.أخذت دشًا متوسط الطول، رغم نيتي في إطالته. لم استطع تحمل ألم ساقيّ فاختصرت. لماذا تبدو علاقتي بجسدي مشوّهة؟ يعني، لماذا التفكير في الجسد يقودنا مباشرة للتفكير في الأباحة، فنتجنب تمامًا الحديث في هذا الأمر؟ لماذا لا اتعامل معه بموضوعية: هنا ركبة سقطت عليها من اثنتي عشرة سنة، وتحتاج للعناية. هنا مفصل ورك به عيب خلقي طفيف، لكن لو سكنه التهاب سيخرب عليّ حياتي. هنا فقرات ظهر تحتاج لتمارين مستمرة. لماذا إذن لا افعل هذا كله؟ يعني، ماذا جرّ علينا عدم الاهتمام بالجسد بدعوى الفضيلة؟؟
حمّام نصف طويل، ضربات سريعة شبه عصبية لشعري ثم لذراعيّ وبطني وساقيّ، وماء كثير منهمر متوسط الحرارة، يأخذ هذا كله ويرحل. ارقب اختفاء الماء في البالوعة الصغيرة واتمنى أن ابكي. سأبكي الآن وسأصبح بخير. لكن هذا لا يحدث. يأبى أن يحدث..

يترك كلٌ منا ما بيده ويسكب صديقنا اللطيف الشاي على الأرض، ونركض نحوه.

يجري عليه كل الناس. اجري أنا الأخرى، في الواقع، لم أكن لأفعل له أي شيء، ولم أكن لاتسلق الجبل وراءه، فيكفي على رأي بقية البنات مصيبة واحدة، لكن خطوتي العادية لم تحتملني ولم احتملها فركضت. تسارعت النوبة وراء عدوي وشعرت بالبرد. في الحقيقة، تبدأ النوبة بفقدان الاتجاه، بالتوهة فجأة، حتى لو كنت في وسط أشد الشوارع طرقًا لها وأكثرها حفظًا لي. يتبعها البرد، بالحاجة لشيء مسكّر، شوكولا تحديدًا، الحاجة لحضن طويل دافئ ارتجف فيه ما بدا لي،العطش، العرق، ثم التهاوي. سقطت على ركبتيّ لكيلا أقع تمامًا على ظهري أمامهم. لم احتمل رؤيتهم يحملونه نازلين به، وجرح طفيف في وجه أظهر دمًا. في حقيقة الأمر، ليس سيئًا أن نصاب بشيء ما من وقت لآخر ،فكل شيء يمكن علاجه، أسوأ ما بالأمر الدم. رأيتك يا يحيى مصابًا ومحمولاً ودمك ذكّرني بكل ما حاولت الهرب منه. كل ما لم أواجهه فبقي لي ككوابيس معاشة يوميًا، دم مينا دانيال، إصابة مايكل مسعد ورأسه شبه المحطمة. لم أخبر أحدًا سوى صديقي اللطيف الذي ذهب معي أصلاً، أني توجهت اليوم التالي للمستشفى للتبرع بالدم، الشيء الذي لن يرجع مينا أو مايكل، لكنه الذنب. فلاشات عديدة لميدان شبه معتم وأصوات ضرب نار متلاحقة وناس خائفة، الكثير جدًا من الناس الخائفة، ولا يتراجعون.
سقطت أريد الصراخ وكتمته. سيطاردني هذا الصراخ والبكاء في كوابيسي، لن أنام جيدًا من الآن. سيكون موضوعًا جديدًا أخبر به طبيبي، فينظر لي بتعاطف حقيقي يبعث على البكاء. صرنا معتادين على الضربات المستمرة، السخرية، اللا مبالاة، حتى صار التعاطف شيئًا يثير في النفس الصعبانيات، يشعرنا بأننا أشياء ضعيفة هشة ستنكسر، وأننا نستحق بعض الأمان ولو للحظات.

يعودون به ونمضي، نترك المكان.

نعم أنا اتهيّب صعود الجبال، نعم لم أعد أذهب لميادين أو امشي في مظاهرات، نعم ما زلت ارتدي ملابس ثقيلة حتى ونحن في أول الربيع، نعم لا أدخل في شيء إلا وضمنته على الأقل بنسبة ثمانين بالمئة، لا علاقات غير آمنة، لا عمل غير مضمون، لا صداقات قد تجرحني بتركهم إياي.. لكني على الأقل لا اتحدى اصدقائي بأن لا يمكنهم صعود جبال لا يستطيعون النزول منها، فتدّق عظامهم.


Viewing all articles
Browse latest Browse all 362

Trending Articles