Quantcast
Channel: يرجع الصوت المسافر
Viewing all articles
Browse latest Browse all 362

جرس فارغ، لا صوت له

$
0
0
يمكن ملء ليالي الخواء.
في الليالي التي يصيبني فيها الخواء بمقتل، لا أدري ماذا أفعل. لذا، أكتب الآن في هذا الصباح الشتوي المشمس لأذكر نفسي: هناك ما يمكن فعله.
يمكن القراءة، مثلا. عادة والأجمل والأكمل، نقرأ في المصحف. قد نصادف آيات تتحدث عن رحمة الله، وأخرى عن حكمته وعدله. نقول "سبحان الله وبحمده" في سرنا ونكمل القراءة.
من توابع الخواء السيئة الملل. نترك المصحف بعد ذلك بدقائق طالت أم قصرت، ونحدق في الفراغ.
مشكلة الخواء التساؤلات التي لا إجابة لها: طب وبعدين؟ أحدق في الفراغ، في السقف مثلا أو في الحائط المقابل. لا أرتدي نظارتي لذا لا أتابع المكتوب على الحائط وإن كنت أعرفه.
يشبه أن تصبح "خاويًا" - فارغًا، فاضي، خاليًا- من الداخل ألا تملك صوتًا داخليًا يتناقش معك أو يقول لك أشياء أو يفرض عليك، أو حتى يغني أو يردد أي من وساوسك التي اعتدت عليها وما عادت تقلقك. لا صوت، سكون تام، سكون مفزع جدا، إحساس بأن كارثة ستقع، إحساس متعاظم بالقلق والترقب، اندفاع الدموع إلى عينيك دون سبب واضح، ثم الكآبة، وياله من شعور.. كآبة طاغية تشبه فراق عزيز جدا أو صديق مقرب، أو الأم مثلاً. التساؤل عن: وماذا بعد؟ أعمل أنا ايه دلوأتي؟ ولا تعرف "تفعل ماذا" حيال "ماذا بالضبط"، بل الأدهى أنك لا تعرف ماذا تفعل حيال كل شيء. فإذا كنت فوق السرير، مثلاً، وأردت النزول للذهاب إلى الحمام، ستجلس نصف ساعة للتذكر كيف تنزل ساقيك من فوق السرير لتلامس الأرض، بحثًا عن الشبشب، ثم تنهض بخطوات ثابتة - غير مترنحة - وتمشي باتجاه الحمّام. تلك الخطوات السهلة التي يؤديها الآخرون بآلية تثير الغيظ، تبدو لك في هذه اللحظات ملحمية في صعوبتها. يذهب منك تفكيرك للا مكان، فعليًا للا مكان، وتفكر في أشياء لا تعرف ما هي لأنك تنساها بعدها مباشرة، وتفرقع خلايا مخك داخل الدماغ فيما يشبه الحرب، بأصوات متداخلة، ثم سكون. سكون تام عالي الصوت جدا حتى ليؤلم أذنيك، يشبه ذلك الخط المستقيم الذي يصف حالة القلب الميت، والذي لا أمل منه.
يمكننا يا روز أن نقرأ، فعندنا مثلاً رواية "تحت شمس توسكانا" التي تتحدث الكاتبة فيها عن وضع الحجارة فوق بعضها لبناء جدار، أو عن "الجلالي"* المزروعة تينًا وزيتونًا وعنبًا وصنوبر ورمانًا، وورد مسك الليل والياسمين والنرجس والبرتقال والجوافة والمانجا والملوخية، وجدي يجلس بجوار شجرة الياسمين ساعة العصرية ليشرب شايًا ساخنًا بالنعناع المجلوب من الحديقة الخلفية التي كانت تخيفني وأنا صغيرة، ويصيح بنا ألا نقطف النرجس لأنه ملك في بهائه، ثم يهدأ لنلعب حوله دون خوف. لا تذكر الرواية كل هذا، إنما أنا من يتذكر ويضفي على الرواية خطوطًا متوازية، وأبكي.
تستغرقني القراءة لتنسيني أو تشغلني عن التساؤلات والبكاء الذي يأتي دون سبب واضح
أكان لا بد يا روز أن تصابي بكل ذلك؟ أكان لا بد أن ترحلي عبر مراحل "كرب ما بعد الصدمة" لتصلي لذلك الإحساس المفزع جدا والمؤلم ألمًا لا حدود له؟ أكان لا بد أن تعرفي ما يعاني منه أحد أصدقائك المقربين جدا والذي يتسم بالجمال**، ولا يتحدث عنه؟
تجعلني تلك الأحاسيس هشة، هشاشة مفزعة ، أقل صوت يكسرني، أقل انحناءة تثني عودي ولا يرجع لينفرد.
لكن رحمة الله قريب من المحسنين يا روز، وأنا أحاول أن أكون محسنة.
ينتهي الخواء، بعد أسبوعين بالضبط، لكن آثاره ما زالت باقية.
الحمد لله على كل حال..
_______________________________________
قطعة أرض، فدان، مزرعة، أي شيء مماثل*
لا يدرك هو شخصيًا مدى جماله **

Viewing all articles
Browse latest Browse all 362

Latest Images

Trending Articles



Latest Images