اعتقد إن د. هبة رؤوف مكانتش تعرف - أو يمكن عرفت - إنها لما تُغصب على إنهاء لقاءها الأسبوعي بتاع شرح مقدمة ابن خلدون في السلطان حسن، مكانتش تعرف إنها بكده بتقفّل أبواب كتيرة جدًا على ناس حلوة، أبواب للبراح والمقابلة والخروج وشوفة الناس الحلوة والأماكن الحلوة، وإنها تحسس الناس إن لسه فيه أمل ولسه فيه مساحة للتحرك في بلد خانق شديد الغباء زي القاهرة/مصر كلها.اتذكر لها مرة، كانت رضوى - القطب المغناطيسي الجاذب لكل الناس الحلوة <3 -="" b="" nbsp="">3>
رحنا ملقيناش القهوة فتحت. دخلنا بيت زينب خاتون، طلعنا فوق السلم، كان فيه زي بلكونة كده أو شُرفة السلاملك، في الدور اللي فوق، قعدنا فيها. أنا ورضوى من جانب وقصادنا فضل ومصري وعبد المجيد، وجنبي حسين، وجنبهم أحمد جمال وولد عسّول عنده تمبلر، ودي كانت تقريبًا أول مرة أشوف حد معرفوش وعنده تمبلر! انبسطت الحقيقة.
..
كتير، لما باكون "هلوعة"أو قلبي طاير ومش قادرة أطبطب عليه أو أضمن إنه ح يفضل جوه صدري ومش حيسيبني ويمشي، بادوّر على أي حاجة أمسك فيها، حاجة تديني الأمان.
كنت رحت شارع المعزّ قبل كده قبل ما القلب يصبح مثقل للدرجة دي، وأصرّيت إني ورفقتي نشتري جوافة، واشتريت جوافتين فعلاً وغسلناهم وأكلناهم، وسط انبساطي وتريقة الرفقة.
المرة دي، أصرّيت برضه أجيب جوافة. كنت متعلقة بيها كإنها منفذ النجاة الوحيدة. اشتريت اتنين كيلو ودوّرنا أنا ورضوى على مكان نغسلهم فيه. لقينا قهوة فاتحة لسه وبترشّ مية، استئذنا ودخلنا غسلناها.
لما طلعت البيت، كان أحمد جمال - الشهير بأبو صلاح - بيتكلم بإجلال عميق جدًا، الألفاظ تقيلة وخروجها تقيل نفسه، صمت طفيف في منتصف الحكي، بين جملة وأخرى. كان بيتكلم عن الراوند اللي أخدها في مستشفى الطب النفسي تبع كليّتهم - ولا كانت عين شمس؟ مش فاكرة - . كان بيحكي عن مريضة بتشوف هلوسات، وبتشوفها حقيقية جدًا. بعد انتهاء الحكي فضل ساكت، محدّق للاشيء، وإحنا كلنا ساكتين، وأنا مش عارفة أعمل ايه. الحكي كان تقيل والموقف كله كان وقعه مش سهل.
..
عزمت عليهم بالجوافة بعد كده. إديت لمصري زيت زيتون جبته معايا من السعودية، انبسط بيه، بتعبيراته الهادية المسالمة المشهور بيها.
..
دخل الولاد - مش فاكرة مين بالضبط - بقية الصالة/السلاملك - ولا كان الحرملك؟ مش عارفة!! - ولقوا ورقة في الأرض. الورقة قروها بصوت عالي، مش فاكرة منها حاجة غير "أنا وإنتي"و"يجب أن نبحث عن الله"أو شيء مشابه. علّق فضل على الورقة إنها شبه تفريغ لجلسة علاج نفسي أو محاضرة عن شيء مشابه. ح تفضل الورقة في ذهني رمز للحاجات اللي بندوّر عليها فبنلاقيها في أكتر الأماكن غرابة وغير متوقعة.
...
فضل كان معاه سِبحة، ومصري برضه كان بيحاوط رسغه بسبحة. في لحظة ما، كنت أنا باصوّر بالموبايل، والناس كلهم بيتكلموا وبيشرحوا وعبد المحسن طلع من تحت وبيسأل ح نعمل ايه، كان مصري وفضل ليهم حوار خاص: مصري واقف وفضل قاعد، كان فضل بيقوله حاجة على السبحة، تقريبًا "سبّح كده"أو "قول كذا"، وبيشاور له عليها. اللقطة التانية مصري قعد جنب فضل على جزء مرتفع من الأرض زي مصطبة صغيرة، وفضل لسه بيشرح له، وهو بيبص له باهتمام عميق، ونظرة طيّبة من عينيه. في الصورة التالتة مصري وفضل ماسكين كل واحد في إيده سبحة، وبيسبّحوا سوا، بدون صوت، وإن كان فضل بيحرّك شفايفه بس.
اللقطات دي من أكتر الحاجات اللي بتهدّيني لما أبقى متوترة وبادوّر في الصور..
....
في لحظة تانية، كانوا بيغلّسوا على حسين اللي بيكتشف المانجا لأول مرة، وبيشرح لنا ليه. كنا مندمجين في الحوار والضحك والتأليش على الراجل، وهو كان غلبان جدًا واتضايقت لانكون ضايقناه فعلاً. في لحظة مقاربة ليها كان انفصل عنا عبد المجيد وقعد يدندن لوحده، مع الوقت كلنا سكتنا وفضل هو بيتطلع "للأفق"أو "للاشيء"وبيدندن لأم كلثوم. أنا دندنت معاه شوية، وهو بص لي باستغراب وسأل: "هو أنا صوتي عالي؟"وضحكت قلت له أيوة، فاعتذر. قلت له مفيش حاجة تستحق الاعتذار بالعكس أنا انبسطت، كنت وقتها بحب أم كلثوم جدًا.
بعد فترة، ح أقرا لعبد المجيد نفسه اعتراف إنه بيحب يدوّر في كشاكيله ودفاتره عن كلمات أومقاطع من أغنية أو اقتباسات بتتكلم عن اللي حاسس بيه دلوأتي، ولما مبيلاقيش، بيحسّ بفزع جدًا. ساعتها فهمت إنه كان مرهق، كونه منامش من 3 أيام، ويمكن حاسس بفزع، وكان بيدندن عشان يطمّن نفسه.
...
الحاجات البسيطة، الحاجات اللطيفة، اللي بنعملها عشان نطمّن نفسنا، بتبقى طيّبة جدًا. لسبب أو لآخر، اعتدنا - واعتدت أنا - على القسوة على النفس، إنها متستاهلش، إنها بتتدلع ولازم نقتل الدلع ده فيها ونقتصه من جذوره، ونتخلص منه، ونبقى ناشفين.
لكن لما يجي لي واحد بيبقى مفزوع وبيدندن لأم كلثوم، دي صورة طيّبة جدًا عن المفروض يحصل. وأنا، بعد معاناة وهرطقة وتجريب، وصلت لمرحلة إني باطمّن نفسي بالجوافة، أو بمزيكا بسكاليا لراجح داوود، أو ابتهال عمرو واكد من فيلم "لي لي"اللي مشفتوش بس حبيت الابتهال أوي.
الرأفة بالنفس والتطييب والطبطبة والرفق، كلهم مطلوبين، كلهم جُمال جدًا، كلهم بيجيبوا نتيجة لطيفة فعلاً.
شكرًا لأحمد عبد المجيد :)
....
بعد انتهاء الجوافة، وقلبي كان اتطمّن شوية بس رجع يرفرف تاني وبيخبط جوايا ويقول لي حرام عليكي كده، استأذنتهم إني أمشي، مش قادرة أقعد برة البيت - حيث المخاطر - أكتر من كده، خصوصًا إن العصر جه والمغرب قرّب، حيث الليل، حيث الفزع، فلازم أروّح. مش فاكرة ساعتها ركبت تاكسي ولا ميكروباص - موقف ميكروباصات السيدة عيشة قطعة من الجحيم ذاته - . المهم إني روّحت على طول الحمد لله، واتلفّيت في السرير. كتبت كلمتين عن اليوم مفرّغة من المعنى، ونمت على طول.
....
يظلّ لد. هبة وحضورها الرؤوف الحنون وقعه الطيّب في نفسي، ولعبد المجيد اللي أصرّ إنه يسلّم عليا بعد ما عدّى نص الشارع . آه افتكرت، ركبت مع مصري وعبد المجيد تاكسي لميدان الأوبرا، ومشينا شارع 26 يوليو كله، لحد ما لقيت ميني باص ح يوصلني لحد البيت. عدّى عبد المجيد نص الشارع وبعدين افتكر إنه مسلمش عليا راح رجع، وأنا رجعت قبل ما أركب الميني باص، وسلّمنا على بعض في تلت الشارع مثلاً، ومصري بيبتسم، كان هو اللي ناداني إني آجي أسلّم قبل ما أمشي.
...
سأظل ممتنة لمصري وفضل على لقطات التسبيح، ولأحمد جمال على احترامه لجلال اللي بيحكيه، وعبد المجيد على دندنته، ورضوى على حضورها الطيب رغم انطفائها في اليوم ده واللي كان باين عليها أوي، ولحسين على ضحكه من القلب معانا.
...
الحمد لله لسه فيه أيام بافتكرها بالطيبة، وسط ثقل أيامي الحالية وألمها. الحمد لله :)