في الكتاب الذي أقرؤه حاليًا، "فيزياء الحزن"، يدور وصف لفترة التسعينات في بلغاريا. الوصف حزين وقاتم وكئيب، شعرت معه بالاختناق فأغلقت الكتاب. يحكي الكاتب عن مدينة صوفيا تحت الحكم السوفييتي، وأشعر أنا بكم التشابه الرهيب بين غباء الشيوعية وتناحة وضعنا الحالي. لكن هذه قصة أخرى.
أغلقت الكتاب لأستطيع التنفس، ومع الحديث عن التسعينات، وجدتني أعرج على طفولتي أنا. اللعب بالبلي الزجاجية، و"القطة العميا"، وأقلام الحبر التي تسبح بداخلها قوارب صغيرة جدًا، والأستيكة ذات رائحة الفواكه والتي كانت اختراعًا هائلًا وقتها، والشيبسي والكاراتيه واللعب في الشارع حتى تتسخ ملابسنا وشعورنا بالرمال، وشرب الماء مباشرة من خرطوم رشّ الحديقة. كل هذا وأكثر.
أتذكر حديثًا أجريته مؤخرًا مع أحد أصدقائي المقرّبين. كان يحكي عن أن الناس اكتسحتهم موجة الحنين العارم أو النوستالجيا لكل ما مضى وأن "حلاوة زمان وبسطرمة زمان"كانوا أحلى بكل تأكيد، وأن هذا الزمن لم يعد فيه بركة. وقبل أن ينطلق غاضبًا كعادته في سبّ أيامنا وأيامهم وأمخاخهم التي تحيل كل شيء قديم لذهبي ووردي و"لا يقدّر بثمن"، سألته عن "مصايف زمان،"السؤال النابع من حوار سابق مع صديقتي المقرّبة. كانت تحكي لي بانفعال عن نفس الموجة –لا بدّ أن اللوثة أصابت الماء ذاته ليتحدث عنها كل الناس هكذا!- وكيف أن كل مَن حولها أصبحوا يتحدثون فجأة بحنين جارف عن "الأزمنة الغابرة"، وعرج بنا الحوار إلى المصايف التي ذهبت إليها وهي طفلة مع أهلها، وكيف كانت مزدحمة وضيقة ولا ينتبه فيها الكبار عادة لاحتياجات الأطفال. كانت غاضبة جدًا.
"في عهد الاشتراكية، كان الأطفال غير مرئيين مثل أطفال العصر الكلاسيكي القديم. [كانوا] صغارًا يعيقون كبارًا. تم إعدادهم لمواجهة صعوبات الحياة، التي لم يكونوا جزءًا منها."غيورغي غوسبادينوف، "فيزياء الحزن"دار أثر.
"في عهد الاشتراكية، كان الأطفال غير مرئيين مثل أطفال العصر الكلاسيكي القديم. [كانوا] صغارًا يعيقون كبارًا. تم إعدادهم لمواجهة صعوبات الحياة، التي لم يكونوا جزءًا منها."غيورغي غوسبادينوف، "فيزياء الحزن"دار أثر.
سألت صديقي إن كانت تجربته مع المصايف صغيرًا قد ضايقته. صمت لبرهة ثم نفى ذلك. قال إن مرسى مطروح زمان قبل أن تشتهر كانت جميلة فعلًا، وكانت الحياة هادئة، ثم عدّدنا معًا أسباب رداءة الشواطئ والمدن الساحلية، بعدها عاد لذكرياته. تركته يحكي وصمتّ أنا، بعدما كنت في السابق أنطلق كقطار لا يرى أمامه ولا يقف في أي مزلقانات ولا أتوقف عن الكلام الغاضب في مجمله، ولا أدع فرصة لمن يسمعني وقتها أن يحكي لي عن تجربة مختلفة حتى لو كانت من ذكرياته الشخصية، فلا مجال لديّ سوى للغضب، وعلى المخالف أن يجد أذنًا أخرى تسمعه.
أقول عاد صديقي للحكي، بنبرات هادئة، ثم احتدّ فجأة. كلانا يراكم غضبًا مكتومًا عند أقل تكّة ينفجر. أنا وصديقتي مصابتان بالغضب طوال الوقت، نتقابل وننفجر في أوجه بعضنا، ثم ننفجر ضحكًا، ويعلو صوتانا في الجدال والسخرية والضحك والشتائم حتى في المناداة على بعضنا البعض. أبذل مجهودًا فوق العادي للتحكّم في غضبي في المنزل، لذلك في أغلب الوقت أنا صامتة، لأنني لو فتحت فمي أصرخ بعنف، بعدها أقضي أيامًا أو شهورًا أكفّر عن إحساسي بالذنب لذلك الصراخ.
لي طبع ناري يشبه ثورًا أهوج يمسك ببازوكا طوال الوقت، ولا تعرف متى يغضب منك فيطلقها على إصبع قدمك الصغير لمجرد أنه تحرّك في وجهه حركة لا تعجب حضرة سيادة الثور المبجّل. أنا نفسي مللت من نوبات غضبي.
في الشهرين الماضيين ضغطت الأوضاع الاقتصادية المتردية على أعصابي بقوة حتى انسحقت أسفلها. للإنجليز تعبير يقول "I can’t make ends meet"ومعناه أنني لا أستطيع كفاية احتياجاتي الأساسية، بينما معناه الحرفي مضحك قليلًا: لا يمكنني جعل الطرفين يتقابلان. طرفا ماذا؟ لا أحد يعرف. لماذا تريدهم أن يتقابلا؟ لا أملك إجابة أيضًا. لكن مثل تلك الأسئلة الفارغة تشغل رأسي طوال الوقت، طاحونة للأسئلة العبثية المضحكة في أغلبها، خاصة لو وضعت تصوّرات غير منطقية من نوعية غزاة الفضاء والكواكب الأخرى وسلاحف النينجا التي تحمل أسماء فناني عصر النهضة.
أمضي أغلب وقتي في المنزل. أشكو من الملل أينعم، لكني في معظم الحالات لا أستطيع تحمّل انهيار الأعصاب الذي يصيبني كلما نزلت للشارع. تزعجني الفوضى وغياب الخطوط الواضحة والنظام، لكن أكثر ما هزّني مؤخرًا كان انتشار المتسوّلين بشكل مفرط. يقف رجال ونساء وأطفال بملابس متسخة وأجساد ضامرة وشعور ملبدة قذرة حول إشارات المرور وفي فتحات الشوارع وسط السيارات يتسوّلون أو يبيعون المناديل، وفوق رؤوسهم مباشرة لافتات مضيئة شديدة الضخامة لدرجة إن تركيبها يتطلب أعمدة من الأسمنت، للإعلان عن خصومات لـ"الجمعة البيضاء"وهو تحريف لا داعي له ليوم الخصومات الأمريكي black Friday، عشان إحنا ناس مؤمنة طبعًا، والكثير جدًا من الإعلانات عن "كمبوند"أو تجمعات سكانية مكتوبة بطريقة خاطئة، في أماكن لا أعرف هل هي موجودة فعلًا أم لا، ويبدأ المتر فيها بأرقام لا تعرف نطقها أو كتابتها. أذكر مرة سمعت فيها رقمًا مماثلًا فانفعلت وقلت له إن منزلًا في ضواحي كاليفورنيا الأمريكية لا يتطلب ربع هذا المبلغ، فهزّ أخي رأسه علامة على أنني أقول كلامًا فارغًا كعادتي، ووافقته الرأي.
لكن مشهدًا كهذا يحطّم أعصابي. متسوّلون تشيع الرواية شبه الرسمية المعتمدة المؤكدة أنهم يكنزون أجولة من النقود في بيوتهم ونحن البلهاء نعطيهم إياها كل يوم، بينما يزدادون عددًا حول المناطق السكنية التي يبدو أنها "نظيفة"، وتحت الإعلانات الضخمة عن حياة مرّفهة لا أتصوّر وجودها ولا حتى بالأفلام الرديئة. هذا ما يدفع عقلي للعطب، دوائري العصبية تتوقف عن العمل ويغمر قلبي الحزن. أمكث في المنزل لأسابيع بعدها، لا أستطيع الحركة.
أتذكر شيئًا قرأته منذ فترة طويلة جدًا، عن القوة المهدرة للعمالة المنسية أو شيء مشابه. عن ملايين تضيع أعمارهم في انتظار انصلاح الأحوال ولا تنصلح، عن التعلل بالأمل والتشبث بأساطير لا تتحقق، ومعارك وهمية جانبية كثيرة جدًا وعقيمة. عمر يمضي وأيام لا آخر لها وليل لا تطلع عليه الشمس، ولو طلعت عليه لأحرقته. لم تعد لنا حاجة به.
.
لا يبدو أن الغضب، أو الحزن، لهما آخر، كأيامي، كالبرد الذي يتسلل الآن ليحتلّ مكانه ببطء وثقة هادرين، ويأكل روحي مثل الشتاء الماضي، كالعطن الذي سكن قلبي فلم أعد أستطيع دفعه. أيام طويلة ثقيلة لوجود ليس له مبرر أو معنى.
28-11-2019