كل مرة باطبخ طبخة جديدة وأقعد أبتكر فيها وأظبطها، كل مرة باطلّع الألوان والورق وأرسم وألوّن، كل مرة باعافر وأزق إني أكتب أو أشتغل أو أروح مشوار ضروري أو أكلم حد لازم أكلمه، في كل مرة كنت بازق إحساس إني مقدرش، إني عاجزة.
.
- وحسيتي بإيه ساعتها؟ إنتي حكيتي لي عن الأحداث، ما وصفتيش مشاعرك.
- معرفش.. يمكن بالخوف، أيوة، بالخوف الشديد والعجز.
- لسه حاسّة بالعجز لغاية دلوقتي؟
- .. آه. ساعتها، كنت حاسة إني مش قادرة أهرب أو أنقذ حياتي، ودي حاجة كبيرة يعني. هو لسه موجود. إني ما أقدرش، ما أقدرش أعمل أي حاجة على الإطلاق. الموت لسه موجود، ومستنيني.
.
في كل مرة باقف فيها قدام المراية عشان أحط كحل أو مكياج أو أجرّب روج جديد، وأظبط الحلق مع العقد ولون الطرحة والخاتم، وأحس إني جميلة فعلًا، بازق الإحساس بالعجز التام وقلة الحيلة. لفترة طويلة بعد "ما ده حصل"كنت حاسة إني قبيحة جدًا، أقبح من إن حد يبص لي ولا إني أبص لروحي في المراية، كنت حاسة إن وشي ده ذنب لازم يتغطى، لازم ميبقاش موجود هنا، وإنه إزاي يبقى لي عين أبص لي في المراية إزاي؟ أنا ما استاهلش!
سنين بعدها، 3 أو 4 يمكن، مجتش جنب مراية، حتى حواجبي مكنتش باظبطها، وده لو تعلمون عظيم. كنت باحس إن "اللي عمل كده ميستاهلش يتبص له"، وساهم في الإحساس ده كلام الناس من حواليا، والمجتمع القذر اللي حسسّنا إننا إحنا السبب: إحنا اللي قتلنا أصحابنا وإحنا خليناهم يتسجنوا وإحنا وإحنا وإحنا.. إحنا السبب والمذنبين الحقيقيين، أبرياء.
وأنا صدقتهم.
مكانش قدامي غير كده، السيستم جوة مخي عطل ووقف خالص. التروما تعمل أسوأ من كده، مكانش عندي ساعتها شبكة دعم قوية ولا طبيب نفسي جيد. أصبت بالخرس بعدها، لعدة سنوات ربما. باسمع وما بتكلمش، أو ما بسمعش كمان.
.
- عملتي إيه في الجلسة؟
- كانت كويسة.. أقصد، كانت علقة سخنة ومنيلة بنيلة، أكيد مش كويسة!
- بس صوتك أحسن بكتير من قبلها.
.
- أنا خايفة.
- طبيعي، دي الغرفة رقم 99 بتاعت ذو اللحية الزرقاء.
- دي زي الأوضة من ثلاثية إيجور تاركوفسكي، اللي يفتحها يتجنن؟
- بالضبط، الفرق إنك ح تفتحيها مع الدكتور النفساني، تحت إشراف متخصص يعني.
- أنا خايفة فشخ.
- حقك، بس ده وقتها، ولا إيه؟ لو مش عايزة متعمليهاش.
- لا.. أنا عايزة. حياتي اتعطلت كتير جدًا وكفاية كده، لا عارفة أركز ولا أقرا ولا أشتغل ولا أعمل رياضة ولا أي حاجة تانية في حياتي. كفاية كده أوي. أنا حاسة إن ده وقتها وإني مستعدة، بس خايفة جدًا. ح أحكي كل ده إزاي؟
- أنفاس عميقة، واغطسي.
.
في أول 2011 عرفت إني بني آدمة، في آخرها اتحولت البني آدمة دي لخراب.
في أولها، اكتشفت إني شخص، إنسان، بني آدم ليه إيدين ورجلين وإرادة حرة، حد يتكلم فا يتسمع، يقول لأ ما تجوزونيش على مزاجكم ولما الولد اللي بيحبني وباحبه يتقدم لي ترفضوه، إنسان يقول عايز أسافر أدرس برة ما يتقالوش إنتي بنت والبنات ما تسافرش، إنتي كبرتي ولسه ما اتجوزتيش تفضلي قاعدة في البيت ما تخرجيش لحد ما يجيلك عدلك، ما تدرسيش ما تخرجيش ما تحبيش ما تتجوزيش على مزاجك ما تقريش ما تكتبيش ما تعمليش أي حاجة خالص، تفضلي قاعدة ساكتة كده واللي نقول عليه يتسمع.
اكتشفت إني أقدر، إني أقول، ولازم أفضل أقول ولازم إني أتسمع مش أتخرس.
طوال السنة عرفت ناس جديدة، وعرفت إن أم كلثوم مش وحشة أوي ما نسمعها تاني كده؟ وتعجبني، اكتشفت روايات واشتغلت في حاجات بعيدة عن مجالي بس –بعد العلاج النفسي- اتعلمت منها، على الأقل اتعلمت إني ما أعملش زي الناس اللي أذيتني أو أكلت حقي، اتعرفت على مزيكا جديدة ورحت أماكن جديدة وجرّبت الحب بكل الفراشات اللي بيطيّرها جوة المعدة ولخبطة دقات القلب والنظرات المختلسة وإحنا قاعدين وسط ناس.. عرفت حاجات كتيرة وجديدة، وعرفت إني مكنتش عايشة.
أنا كنت، قبلها، في طريقي للتحوّل لواحدة مصرية عادية جدًا: بتأكل عيالها بامية بالعافية لأنها ما تعرفش تطبخ غيرها وتتريق عليهم لأنهم "مش مقدرين النعمة"، وتعامل الناس وحش وتقول على اللي أقل منها إنهم مقرفين ومعفنين و"شوف لابسين إزاي؟ ده ريحتهم وحشة!"وتقول عليهم "مبوّظين سمعتنا قدام الأجانب"وتضحك ضحكة سخيفة كده و"وجهها ملطخ بالأصباغ مثل الهنود الحمر"على رأي د. أحمد الله يرحمه. كنت في طريقي إني أبقى مسخ.
في آخر 2011، أصابتني ضربة عاتية، قوية جدًا. لو أنا موجة فا دي الصخرة اللي اتحطمت عليها، لو أنا زهرة عبّاد شمس زي ما صديقي بيقول لي، فا ده المنجل اللي قطع صلتي بالأرض، لو أنا غابة، دي قذيفة البازوكا اللي بدأت الحريق.
وأنا كنت غابة واتحرقت.
.
"شايف؟ آدي إحنا واقفين أهو تحت شمس مايو الساعة 2 الضهر، بس أنا مش شايفة النور، حواليا وجوايا ضلمة، ضلمة شديدة جدًا، ومش لاقية الضوء اللي آخر النفق، لأنه ملوش آخر."
دي كانت كلماتي، كتبتها في محاولة لتجميع موادّ عن كتاب بيتكلم عن "اضطراب كرب ما بعد الصدمة"وترجمتها ونشرها. معرفتش، لغاية دلوقتي وبعد 8 سنين، معرفتش لا أخلص الكتاب ولا أحط فيه قلم ولا أنشره.
شايف النور ده؟ هايل، عظيم والله أحييك. لفترة كبيرة من حياتي مكنتش قادرة أشوفه. كنت بانزل أروح الشغل وأخلص اللي مطلوب مني معرفش إزاي، بأنهي معجزة بأنهي خلايا عصبية بأنهي إرادة، وأكوي هدومي قبل ما أنزل وأنا باعيّط: أصحى أعيّط أغسل وشي أعيّط أصلّي وأسجد أعيّط، وبعدين أمسح كل ده وأنزل. بس مكنتش لاقية النور، جوايا برد وضلمة، ولفترات طويلة، مكنتش باسمع، لدرجة إنهم كانوا ييجوا من ورايا ويخبطوا على كتفي –ويخضوني- عشان أعرف إنهم بيكلموني.
من ساعة ما ابتديت العلاج مع الدكتور النفسي العظيم ده، ربنا يبارك له دنيا وآخرة، وأنا ابتديت أشوفه. جزء منه على الأقل.
.
لما رحت بيتي الجديد السنة اللي فاتت، اشتريت الستاير بنفسي، كانت ملوّنة ومفيهاش كرانيش ولا براقع ولا 3 طبقات مستحيل تتغسل ولا فرنشات وكرانشات وخيوط ملونة وبلي كتير متدلدل من كل ناحية. مجرد ستاير، ملونة، تقيلة شوية، وعلّقتها.
صلّحت الشبابيك وركبّت لها سلك، وغيّرت اللمض، مكانش عندي نجف، مجرد لمبة متعلقة بسلك للسقف. ماما جابت السباك صلح لي الحمّام، وظبطت المطبخ وفرشت مرتبة على الأرض. كنا في الشتا، وكانت الدنيا برد جدًا، وكنت غرقانة في الدهشة: معقولة كل الحاجات دي بتحصل لي أنا؟
كنت حاسة إني في مغامرة أو رحلة خلوية وقاعدين تحت خيمة و"مصباح التنجستين"اللي كنت باقرأ عنه في كتب الكشافة من سلسلة ليدي بيرد اللي لسه عندي. كنت باشغل مزيكا وأفلام ومسلسلات، ونصبت شجرة الكريسماس –اللي شارياها من 4 سنين فاتوا ولافاها وراكناها في قعر الدولاب- وسط كراكيب أوضة المكتب، وزيّنتها ونوّرتها، وصاحبتي كتّر خيرها جات لي هيا وجوزها وابنها، ركبوا لي أول مكتبة في الحيطة، وعلقنا الأرفف، ومشيوا وابتديت أرص الكتب.
كنت باخلق لنفسي حياة.
.
أغسطس اللي فات سمعت عن حفلة للمغنية الفلسطينية دلال أبو آمنة، كانت ح تتعمل في حاجة اسمها "محكى القلعة"أو مسرح كده منصوب في قلعة صلاح الدين. اتهوست، أنا بحب الأغاني الفلسطينية جدًا، معرفش دلال ولا عمري سمعتلها حاجة قبل كده، بس واي نوت؟ عمري ما رحت القلعة ولا أعرف بيوصلوا لها إزاي، بس زهقت من الشغل ومعايا تمن التذكرة.. واي نوت؟
كلمت أصحابي اللي ممكن يكونوا فاضيين ينزلوا كمان ساعتين، اللي كان وراه شغل واللي عنده برد واللي بنتها بتسنن وسخنة، واحدة صاحبتي قالت لي "أنا معرفش دلال وعمري ما سمعتها."قلبي وجعني. كان نفسي أقول لها "دي فرصة إنك تعرفيها، انزلي وح ننبسط"بس معرفتش.
في الآخر لبست ونزلت، هناك قابلت صديقة أعرفها طشاش، وكالعادة فاكراني وأنا ناسياها تمامًا. دخلنا سوا وانبهرت بالقلعة جدًا، إضائتها بالليل عظيمة! قعدنا، والست طلعت على المسرح لابسة فستان واسع جدًا وأحمر، وصوتها الحقيقة مكانش محتاج ميكروفون.
هيا غنّيت، وأنا مبقيتش هنا.
قعدت في كرسيا ورجعت ضهري لورا. كان ساعتها واجعني جدًا، حاولت أريّحه، بصيت للسما، لاقيت نجمة أو اتنين، ابتسمت أكتر. الست بتقول كلام حلو خالص مش فاكرة منه ولا حرف، ومعاها "ختيارات"، ستات كبيرة فلسطينيين من أوائل اللاجئين لمصر، جايين يغنوا معاها. طول الحفلة تقول "تحيا الستات"والناس تزغرد وأنا أضحك! كنت مبسوطة جدًا، مكنتش مصدقة إن ده بيحصل لي.
خرجت بعد ما دلال خلّصت، الرفقة اللي كنت معاها حبّوا يفضلوا قاعدين. اتمشيت، طلعت باتمشى على مهلي، من جوة عند المسرح لحد برة، في جنينة كده في مكان مرتفع قبل ما أطلب أوبر عشان أروّح. كلمت صديقي في التليفون.
حكيت له عن الحفلة، كان عنده برد فكانت ردوده مضحكة جدًا وكل حروفه بقيت "باء"خالص! قلت له إني لاقيت نجمتين في السما، قال لي "عظيم جدًا، ده ما بيحصلش كتير،"حكيت له عن دلال ولبسها وزغاريدها قعد يضحك. اتكلمنا ساعة ونص، وكنا في أغسطس وبردانة جدًا لأننا على ربوة عالية، بس كنت في منتهى، منتهى السعادة.
الحاجات الحلوة دي عشت عشان أشوفها. فضلت موجودة علشان تحصل لي.
.
- مين ممكن يسقي الغابات اللي جوّانا بعد ما اتحرقت؟
- حد تاني غيرنا؟ مفيش.
.
في كل مرة بارقص فيها من غير ما أقعد أقول "لأ شكلي وحش"أو "لأ جسمي معرفش ماله"أو "الناس ح تتريق عليا"كنت بانتصر، زرعة جديدة بتطلع جوايا، كل مرة باقف قدام المراية وأبتسم لنفسي عشان شكلي حلو، وما أقولليش خالص غير "شكلك على طول حلو، وإنتي عارفة كده كويس"، شجرة ورد جديدة بتطرح، لما بنتجمع كلنا وأصرّ إننا نتقابل وأشيل الكاميرا التقيلة وأعمل هدايا وأطبع صور ونتصور ونروح السينما وناكل ونغني ونرقص ونطبخ ونشوف أفلام في البيت ونجرّب ماكياجات جديدة، كان ييجي هكتار بحاله من الأرض المحروقة جوايا، بيطلع بداله زرع وشجر كتير وقوي وأخضر ومليان أصوات حياة وسما صافية وشمس ما بتلسعش.
في أغنية "اثبت مكانك"أمير عيد بيقول "أنا اللي من جوايا اتحرق"، وأنا كنت قشرة بني آدم، مجوّاهاش حاجة خالص.
.
- هو إحنا لسه مؤمنين بالحاجات الكبيرة دي يا دكتور؟
- إنتي لسه مؤمنة بيها؟
- يعني.. يعني.. أظن. آه مؤمنة بيها، الحق والخير والعدالة، مؤمنة بيها وعارفة إنها حقي، بس عارفة إني ما ينفعش أفتح بقي تاني. بقيت مدركة.
- لسه الحاجات اللي حصلت، بيتعاد نسجها وتوليدها جوة دماغك؟
- لأ، وآه، وطول الوقت.
.
في فيلم "Avengers: The Age of Ultron"جات لقطة كده، فيها كل واحد من الأبطال بيشوف هلاوس عنيفة، بتطلع له أسوأ مخاوفه. توني ستارك، عليه وعلى كل آل ستارك المحبة والجمال والسلام، شاف جثث كتيرة جدًا، من ضمنها جثث أصحابه، وواحد فيهم بيقول له "إنتا اللي عملت كده."
دي أسوأ مخاوفي.
أول مرة حسيت فيها بالذنب كانت أسوأ مرة. عقلانيًا، أنا مش شايلة المسؤولية، نفسيًا، خايفة عليهم فشخ، من كل حاجة: تعدية الشارع وحرق الأكل وفرقعة اللمض وتوقيف الكماين وخيبة الأمل، ومني.
.
لما رحت المستشفى وأصحابي ساندينّي، كنت حاسة إنه "إشطة، let’s do it."لما رحت أعمل العملية في عيني، في النص التاني منها كنت هادية خالص، إنه "let’s cut the crap خلينا نخلص بقا."بامدّ دراعي عشان أعمل التحاليل اللي الدكاترة طالبينها، باخد الدوا في مواعيده ولما يخلص باجيب تاني وأكمّل الجرعة، باجرّب أكلات جديدة وطرق طبخ جديدة ما تضايقش معدتي، باحاول ما استهلكش بلاستيك كتير عشان الحرّ ما يزيدش، باعيد اكتشاف أم كلثوم وأحبها، باحاول بدل المرة عشرتلاف إني أخلق جوّ حلو وجميل جوة البيت اللي بيجمع الأضداد المتنافرة ده، باضحك وأعمل أعياد ميلادات ونرقص وأعمل تورت وأحوّش عشان أجيب لأخويا ميدالية غالية لآيرون مان اللي قال لي إنه بيحبه، باعمل بيتي فور وأصحّي ماما ليلة العيد تعمل الكحك لأنه "العيد ح ييجي بكرة ما يلاقيش كحك؟ إحنا بنهرّج والله!"فا تعمل كحك وأساعدها في البسكوت وتسوِّيه ونرصصه ونرشه وتنزل تصلي العيد وأخش أنام أنا، أصحى ألاقيها مبتهجة جدًا إننا "عملنا الحاجة سوا"رغم إنها ما نامتش كويس، بس فرحانة إنها بتقدم لبقية إخواتي وخالتي وولادها من الكحك والبيتي فور والبسكوت اللي عملناه، بفخر حقيقي.
كل ما حد يقول قدامي إنه "مش عايز يعمل الحاجة الفلانية عشان مش شايف لها لازمة"بامسك نفسي بالعافية إني أقول له "أنا شفت الموت ورجعت منه، من جوايا متّ كتير أوي وسبحان من أحياني ولسه محييني لحد دلوقتي، الحياة ما تستاهلش إنك تضيّعها في علوقية إنك مش عايز تروح للدكتور أو تعمل التحليل العلّاني أو تطالب بزيادة في المرتب أو تكمّل دراستك أو تقول لأ مش ح أصالح فلان هو يصالحني الأول.. الحياة أقصر بكتير من كل العلوقية دي."
بامسك نفسي لأن، ويل، التجارب مش واحدة وإحساس الناس بيها مش متشابه، والتعالي مش حلو والله، ولأن اللي شاف روحه بتطير بس رجعت له تاني، بمعجزة مش فاهم سببها لحد دلوقتي، مش شرط يحس بالحاجة بنفس درجة اللي مشافش.
.
روز
26-8-2019