أحادث أمس صديقي: أنا خائفة، خائفة جدًا. يردّ "طبيعي إنك تخافي وتقولي لا مش ح أعمل كده، وفي الآخر تعمليها، أو ما تعمليهاش وتقعدي تتساءلي طول الوقت "طب مش كنت مشيت الطريق لآخره؟"وتقرري بعد كده تاخدي الخطوة دي، أو تفضلي تشتكي وتسبّي للعالم."
أبتسم قليلًا، أقول في داخلي إنه يعرفني فعلًا: لن تخرج أفعالي غالبًا عن هذين الخيارين. ينطلق بعدها في الرغي حتى أطمئن. أحكي له عن شيء كتبته فيضحك، ثم استأذنه في النوم. يجعلني الاطمئنان أنام، يجعلني أستريح.
قلت لنفسي أمس إنه لا داعي للاتصال بأحد أو الحديث معهم، لكن صوتًا خافتًا عارضني، أخبرني -وهو يلعب في خيوط طرف السجادة- بأنني لو ذهبت للنوم وكل هذه المشاعر السيئة بداخلي، سأصاب بالكوابيس وأستيقظ مرهقة جدًا، لن أستريح. سمعت كلامه ورجوته أن يترك السجادة لأنها نحلت، واتصلت بذلك الصديق.
صحيح أنني أصبت بكابوس سخيف جدًا -تدّخلت في منتصفه لتعديل السيناريو، أيقظني جزء من عقلي "اصحي يا رزان ده كابوس!"فعدّلت أحداثه وأكملت النوم- لكن هذا بسبب الإثقال في الأكل قبل النوم مباشرة، خاصة وأن معدتي لا تهضم جيدًا وتعلن العصيان. لكن بعدما أفقت، تذكرت محادثة البارحة وابتسمت. رحت في نوم آخر، عميق ومريح، ومليء بالوسائد التي أستعين بها كنوع من الترضية للجسد المرهق، المعترض.
-أنام وحولي 4 وسائد بالمناسبة، وأستيقظ وكلها في الأرض، كأن حربًا قامت عليها، وأشخّر بصوت عالٍ جدًا، وأتقلب وأنزع الملاءة وأسقط زجاجة الماء من فوق الكومودينو.. لأ مريح مريح جدًا يعني!-
لكن، في الجزء الأخير من النوم، جاءتني رؤى.
صار لي زمن لا أعرف تحديده، تزورني الرؤى. أمس أحلم بأنني ذهبت لتنظيف شقة منى لأنها عائدة في إجازة، ووضعت لها في الثلاجة جبنًا وطماطم وزيتونًا وخبزًا، وعندما توجّهت للإفطار ولمّا أفق بعد، صنعت لابنتها، مريم، ساندويتش "جبنة صفرا"ونصحتني منى ألا أترك أمامها برطمان الزيتون لأنها مجنونة به، كل هذا وأنا أحشر لقيمات العجّة في فمي وأضع عليها -بلا وعي- الشطة التي نهاني عنها الطبيب. بعدها بقليل فتحت الموبايل لأجد تسجيلين من منى! يا سبحان الله.
اليوم كنت أتخيل إنني أحادث صديقي وأضع خططًا للمقالات واعتذارًا عن عزومة عائلية. في المحادثة، حكيت له عن عامين من حياتي، صار لهما فترة يترددان على ذاكرتي المعطوبة أساسًا، ثم أستيقظ وأقرر الكتابة عنهما، هنا.
.
يا صديقي اسمعني أرجوك.
في 2012 قررت أمي السفر للعمل بالسعودية. كانت الظروف صعبة وأرادت الحصول على فرص جديدة لنا ولها. أخذت تلحّ عليّ بالسفر معها لأرافقها، فرفضت. كنت أعمل وقتها، ولي أخوان في الكلّية والثالث متزوج، وأختي الكبرى تعمل. لماذا لا تأخذ أختي؟ تقول لي إنها صعبة في التعامل و"مش حنيّنة زيك". لو كنت أعرف أكثر، لقلت لها إن هذا ليس ذنبي: هذا نتاج تربيتها، ومش أنا اللي ألمّ الغلّة لأني مزرعتش.
عملت وقتها بدوام كلّي، عمل لا أحبه ولا أستطيع التركيز فيه. كنت مصابة حديثًا باضطراب كرب ما بعد الصدمة، وكان حادًا ولاسعًا ومنيلًا بنيلة. عانيت من كل أعراضه حتى غير المشهور منها، كل كلمة ذكروها في المواقع التي قرأتها، عانيت منها قبل قراءتي عنها! أمراضي عجيبة وتطبق ما جاء في كتب الطب بالملّي!
لكن عملي وفّر لي ترتيبًا معيّنا يتبعه يومي، بدل الفزع العظيم بأن "كل هذا الوقت أمامي ولا أجد فيه شيئًا لأفعله؟ حتمًا سيحدث لي شيء خطر جدًا ومؤلم."وجاءني بمرّتب ضئيل أينعم، لكنه كان يكفيني لثلاثة أسابيع من الشهر، المعجزة العصية على التحقيق في هذا الزمن. مع تلك الكفاية حققت نوعًا من الاستقلال المادي، الأمر الذي لم أجرّبه من قبل.
لم أرد ترك كل هذا والسفر للمجهول. كيف سأعثر على عمل في منطقة منسية من الزمن؟ إضافة لرغبة ضعيفة في المقاومة: لماذا أنا؟ أترك عملي أنا، وحياتي وأصدقائي وكل ما أعرفه، لأذهب في سفرية لا أعرف عنها شيئًا ولا يوجد لي معين ولا صديق، هناك؟
بعدها بعدة شهور حدث شيء بشع جدًا، في عُمر هذا البلد. ولمّا كانت أمي جديدة في مسألة الإنترنت والفيس بوك، ولديها أصدقاء مثلها لا يعرفون كيف يحمون أنفسهم، فقد رأت الصور. صورًا كثيرة أفزعتها، فأرسلت لي إنها متألمة جدًا، ولا تستطيع البقاء وحدها، وتريدني أن آتي حالًا.
سبحان الله: "حالًا"تلك حدثت في شهر. في 30 يومًا تركت عملي ووضبّت أمتعتي واشتريت حقائب جديدة بعجلات، واشترى لي أخي الوسطاني لاب توب كي أعمل عليه، وكنت من قبل أستعمل كمبيوتر العائلة البي سي الضخم أبو سي بي يو تصدر مراوحه ضجيجًا يعادل طائرة تهبط، ودعوت أصدقائي كلهم للتجمع في حديقة الأزهر كنوع من حفل الوداع، وأخبرتهم بأنني أريد هدايا: أي شيء صغير خفيف الوزن أحشره في الحقيبة وأسافر به. قلت إنني سأشعر بالوحدة جدًا، اتركوا لي أشياء من رائحتكم.
أذكر وقتها أن ولدًا أسمر حضر قبل ميعاد الحفل لأن لديه عملًا في ذلك اليوم، وقال لي إنني شجاعة جدًا -الأمر الذي سيكرره كل أصدقائي بعدها- وأخذت لنا صورة طلب مني ألا أضعها على الفيس بوك لأنه لا يحب ذلك، ثم رحل. تقاطر بعدها كل الصِحاب: ما زلت مدينة بالفضل لدروس د. هبة رؤوف في جامع السلطان حسن، القريب من الحديقة، لأن أغلبهم كان يحضر لها، فلمّا انتهى الدرس لذلك اليوم جاؤوا جميعهم. كنا نحو 25 صديقًا وصديقة، أو أكثر ربما، وكانت تلك أكبر تجميعة تحدث لأجلي، في زمن طويل جدًا.
أحضر لي مصري رواية "الغابة النرويجية"لأنه يحبها كثيرًا، قال لي "يمكن ما تعجبكيش بس دي الرواية المفضلة عندي على الإطلاق، ولو ما حبيتيهاش أنا كاتب لك اقتباسات جوّة، دوّري عليها"فانبسطت جدًا والله. صنعت شوري كاب كيك أو كعك مكوّب لاحسن بتوع الترجمة يزعلوا، مرسوم عليه بالكريمة الزرقاء والوردية والبنفسجي، ونجوم وأشياء بتلمع بقا وآخر دلع، وكتبت لي على كارت مرسوم عليه أرنب يقرأ "لا تحزني أبدًا، فلديكِ أصدقاء رائعون"بالإنجليزية. صنع لي عبد المحسن دي في دي عليه كل ألبومات عمرو دياب من ساعة ما قرر الغناء "من قلبه"إلى أن أصبح برتقاليًا يذهب لجيم واحد ويلعبون أغانيه في كل صالات الرياضة في مصر، رجالة وستات. جاءت ريهام قرب آخر الخروجة، تركض وتلهث ومتضايقة جدًا من تأخرها، وقالت إنها لم تجد الوقت لشراء هدية لي فطبعت لي مسوّدة كتابها "البنت اللي مليانة ديفوهات،"وأنا قلبي ارتعش جدًا لأنها تأتمنّي على شيء بكل تلك الأهمية. لا تعرف ريهام أنني، في تلك السفرية السخيفة فشخ، كنت أصطحب كتابها وتدويناتها على موبايلي لأقرأها مرارًا: كنت أنسى بمعدلات لا تُعقل، لكن هذا وفّر لي أوقاتًا أطول من الأمان مع تدويناتها الفاتنة <3 font="">3>
.
قالوا لي يومها إنني شجاعة جدًا، وأنا كنت حزينة أريد أن أخبرهم بأنني مسافرة غصب عني والله ولا أريد أساسًا التحرّك من هنا، من تلك الحديقة وكل هؤلاء الصِحاب الرائعين، لكني أحجمت. سافرت بعدها بخمسة أيام.
.
في تلك المدينة المنسية، في السعودية، هدأ كل شيء. حاولت أمي بمجرد وصولي أن تجد لي عملًا في المستشفى الذي تعمل به، وعرّضتني لمواقف محرجة جدًا آلمتني. بعد تلك الهوجة، هدأ إيقاع حياتي لدرجة كبيرة، وصار وقتي خاويًا جدًا. هدأت أعراض كرب ما بعد الصدمة فانزاحت لتترك مكانها للاكتئاب. اكتئاب عظيم، كبير وساحق، يطغى على كل ما عداه.
.
مما أمدح نفسي كثيرًا جدًا بسببه، مديحًا مهولًا لا أتحدث عنه كثيرًا لا أعرف لماذا، أنني كنت أحفر في الصخر. حفرت بأقصى ما استطعت، لأنني شعرت بقوة هائلة تشدني لأسفل. لم أستطع التواصل مع أصدقائي، وكلٌ انشغل في حياته، والطبيب النفسي الذي كنت أتابع معه وقتها ضرّني بقسوة. كنت وحدي تمامًا.
لكني قاومت.
كنت استكشف المكان المحيط. وجدت على مقربة منا، شارع طويل مليء بالمحلات التجارية، حتى إن اسمه "الشارع التجاري"! وبعد عدة محاولات للتسوّق مع أمي، مضنية وعصبية ومرهقة، قررت الذهاب وحدي. كنت أمشي في شارع طويل رأسي، يصل ما بين سكن المستشفى وذلك الشارع التجاري، ونظرات الناس المدهوشة تلاحقني. لم يكن غيري يمشي في الشارع، لا رجالة ولا ستات والله، كما إنني ألبس طرحًا ملوّنة ولا أغطّي وجهي، أكيد كنت عَجَبة! كان ملّاك المحلات يخرجون من محلاتهم لاستطلاعي. في البداية كنت أحرج وأغضب، لكني تعلمت أن أتجاهلهم، ثم عندما احتاج موبايلي للتصليح تعرّفت عليهم، وبالحديث والنظر في العينين بثبات احترموني، وتجاهلوا مسيراتي الطويلة للشارع التجاري.
هناك، تصاحبت على محلٍ للأدوات المنزلية، وأصبح وجهتي المؤنسة للخروج والفُسحة.
كان جزء منه مكتبة للأدوات المكتبية، يسمونها قرطاسية. مكتبة عظيمة ومبهرة، مكدسة فيها البضائع تكديسًا، فكنت أعرج على كل سنتيمتر منها علّني أجد شيئًا مدهشًا أشتريه. ابتعت أكوامًا من الأدوات المكتبية التي ما زلت أستخدمها حتى اليوم، لكن بالأصل كنت أهرب إلى الألوان والمقصات والأشياء الصغيرة والأقلام المليئة بالجليتر والأجندات والأوراق الملونة، من حياتي الرمادية المؤسفة. كنت أقاوم تساؤلات في عقلي "ح تجيبي ده ليه؟ إنتي مش محتاجاه!"فأسكتها بإنني ربما أحتاجه فيما بعد.
لم أكن أقضي وقتًا طويلا في ذلك المحلّ، لأنني كنت ملزمة بميعاد انتهاء دوام أمي لأعود قبلها إلى المنزل وأحضّر العشاء. كلما تذكرت تلك التفاصيل يؤلمني قلبي جدًا، والحكاية ربما طريق شفاء الراوي، لذلك سأحكيها.
أول ما وصلت للسعودية ابتهجت أمي كثيرًا جدًا، لدقيقتين تقريبًا، ثم أعلنت بأنها ستدعو زميلات العمل للعشاء. بعدها مباشرة دعت أطفال العمارة على كيك وشاي، ثم أعلنت بأننا سنذهب للتسوّق بعد الدوام. كل هذا وأنا مذهولة تمامًا: المفروض أن أُدعى أنا للعشاء ويُصنع الكيك والشاي لأجلي وأستريح أول يومين على الأقل من الركض للحاق بموعد الطائرة!
ما اكتشفته فيما بعد أن أمي تتخذني عاملًا مساعدًا للحياة: في وجودي تزهر وتثمر وتقدّم أحسن ما عندها، للآخرين. كنت أستغرب جدًا، عندما اصطحبها للعيادة وأنا بعد صغيرة، أن المريضات يقلن عنها إنها طيبة جدًا وخدوم ومعطاءة، وأننا محظوظون بها كأم، وأتساءل بداخلي "أومال مين اللي بنشوفها في البيت دي؟"
من نراها في البيت، طبعًا، النسخة المرهقة المتعبة من العمل طوال اليوم، فلا يعود بإمكانها أن تقدم أي عطف أو تفاهم أو حنان أو أي شيء. النتيجة أنها أفرخت 5 أبناء لا يعرفون تلك الأشياء.
قبل أن أسافر لها، لم تكن تطبخ أو تأكل. تكتفي بالخبز والجبن والماء، حتى الشاي لا تصنعه، ولا يوجد لبن ولا نسكافيه في البيت. لا تعرف كيف تعيش وحدها أو تعتمد على نفسها.
أمي غلبانة جدًا: وهي صغيرة نشأت على الكفاف، مصر كلها والله كانت كفاف جدًا، في ظل الجمعيات والتموين والانفتاح والسادات والفلوس التي ضاعت عند الريّان -ظلّت جدتي إلى ما قبل وفاتها بقليل تبحث عن أي أخبار عن النقود التي لها عنده- فتعوّدت على أن الضروري جدًا فقط هو ما نحضره، والباقي تفاهات. لكن الظروف تحسنت فيما بعد، تحسنت وأصبحت جيدة وفي فترة ما امتلكنا أكثر مما نحتاج لصرفه، لكن العقلية لم تتغير.
أمي لا تعرف أن هناك حياة أخرى، حيوات كثيرة جدًا أخرى، فيها توابل ووصفات جديدة وخضار يُصنع بطرق شهية، فيها سفر ورحلات واسترخاء على الشاطئ دون القلق حيال الغداء وح نشتري السمك منين ولازم يكون طازه. لا تعرف أن هناك خطوط موضة جديدة والملابس يمكنها أن تكون زاهية وملونة وفيها ورد أو أي شيء يفتح النِفس على الحياة. لا تعرف شيئًا عن الأفلام أو الكتب أو الروايات، ولا أي شيء آخر سوى الشقاء والتعب.
قد تكون أمي ضحية، أغلب طبيبات النساء هكذا، من حكايات أصدقائي عن أمهاتهن، لكنها في السكّة نسيت الفرح والضحكة والابتهاج والدعم والحنان والحب والتقبل غير المشروط. لم أعرف مع عائلتي كلها أي تقبل، لا عادي ولا بشرطة.
.
في تلك السفرية رأيت ما تفعله أمي، بوضوح، وإن لم أدرك تأثيره عليّ أو أتمكن من مقاومته. ما زلت أذكر محاولاتها لمنع الطعام عني كي لا يزيد وزني أكثر من ذلك. كنت ساعتها أتناول دواءً المفروض أنه مضاد للاكتئاب، لم ينفعني بشيء وإن نالتني كل آثاره الجانبية، منها فتح الشهية. لكنه فتح شهيتي للطعام وليس للحياة، فكنت آكل وأنا تعسة جدًا، لا أستطعم أي شيء أضعه في فمي، لكني أسكت جوعي القارس. بعد ذلك التاريخ بأربع سنوات، قرأت تدوينة لهيفا، الكاتبة الناجحة جدًا، تذكر فيها تاريخها مع محاولاتها لضبط شهيتها المفتوحة دومًا، وكيف أنها وهي صغيرة كانت أمها تبعد الطعام عن يدها أو تقرصها أو تضربها على كفها لتتوقف عن الأكل. بكيت عند تلك الجزئية، لأني تذكرت تاريخًا مماثلًا.
كانت أمي تعود من العمل ليلًا منهكة، تتوقع العشاء معدًا وقد اشتريت الماء -هناك الماء العذب يُشترى ولا ينزل من الحنفيات- وأحضرت الطلبات وغسلت الغسيل إلخ إلخ. وعندما تجلس للعشاء، تحكي عن يومها.
كانت تمتص تيار الحياة من داخلي. ربما يبدو التعبير كليشيه مبتذل، لكنها فعلت ذلك بالحرف. كانت تحكي عن كل الأشياء السيئة التي حصلت لها وتتوقع مني حلّها! كيف وأنا نصف عمرك تقريبًا، يا ست؟ وعندما أقترح عليها حلًا فيه أي شبهة مواجهة، تتراجع، وتقول بإنني لا أفهم شيئًا، ثم لا تسمع أي حكاية عني يومي أو مشاعري أو عملي أو أي أمر آخر يخصني، وتؤنبني على أي شيء تراه ناقصًا أمامها ولا تكف عن التعليق على حجمي الزائد وتنصحني بالنوم مبكرًا كي أستيقظ مبكرًا أو أكف عن تناول المنوّم لأنه هو ما يجعلني أنام 14 ساعة في اليوم والبركة في البكور رغم أنني لا أملك شيئًا أفعله في الصباح.
.
مما يُعجب له أنني قاومت. قاومت كل ذلك واحتملته وما زلت حية، أقاوم.
لسنوات بعدها صُدمت بقوة، وكثيرًا جدًا، عندما عرفت أن الحب يُعطى بلا مقابل ولا ثمن، وأن التقبل غير المشروط واجب على الوالدين. عرفت أن اللمس أو الأحضان واجب بشري على كل من يريد الخِلفة، وأن الأبناء ليس من واجبهم أبدًا الاستماع لمشاكل والديهم، أصدقاء والديهم وشبكتهم الاجتماعية هم من يقع عليهم هذا الدور. عرفت أن "الشبكة الاجتماعية"للدعم فيها الأصدقاء ومن نرتضيه كتمًا لأسرارنا وناصحًا لطيفًا، وليس أي شخص نجده في وجوهنا والسلام. عرفت أن الحب من حقي، والحياة الآمنة السعيدة، والابتهاج، من حقي جدًا وتمامًا.
ما زلت أسعى للحصول على مساحات آمنة لي، أخلق بعضها في المنزل وأركض في براح الأصدقاء، قوية، خارجه. ما زلت أومن بأن من حقي السعادة والله، وأسعى إليها بكل طاقتي الضئيلة أصلًا.
بعد غدٍ، أتوجه للمستشفى كي أحصل على علاج جديد للاكتئاب، ربما يأتي بنتيجة. يقول لي صديقي بعدما سألته "ولو ما نفعش؟"إن الاحتمالات 50-50، وأننا بنعمل اللي علينا وخلاص. ما لم أصححه له إن الاحتمالات 70-30، والسبعين هي الشفاء والنجاح والتقدم وحاجات كتير تانية حلوة فشخ. لكني خائفة جدًا.
أول مرة بنج كلّي وامتناع عن الأكل والشرب لنصف يوم وأول مرة أشياء أخرى كثيرة جدًا، خائفة وأرتعد، قلبي يرتجف من جوة ثم أعود وأذكّر نفسي بانتصاراتي على غول الاكتئاب المريع في سنتي السعودية، وأنني كنت ساعتها وحدي تمامًا، فا مش ح أقدر على دي وأنا معي طبيب بارع وأصدقاء في منتهى العظمة؟ لأ عيب عليا بقا.
أرتجف ثانية ثم أتذكر تاريخي ومعاناتي، وكلمة تامر "إنتي حاولتي كتير وبكل الطرق الممكنة، مفاضلش غير ده، اعمليه وشوفي"وتعبير شادي عما أفكر فيه تمامًا "تستحقي أجازة، أيّ بريك من التعاسة المستمرة دي، وإنتي شفتي كتير، الله يعينك"وأمتنّ جدًا.
أعتذر عزيزي القارئ والقارئة على كآبة التدوينة وسخافتها ومشاعرها الثقيلة أو عن دموعك التي انهمرت وأنت تقرأ، آسفة والله مش قصدي، لكن الكتابة علاج لي، ولأسباب تقنية متعلقة بمتلازمة النفق الرسغي، لا أمسك القلم. وما دمت كتبت على اللاب توب، أنشر بقا :D
معلش تاني والله، وادعُ لي كثيرًا جدًا، وذكّرني بأن أبتاع لبنًا بالموز لأني أنوي شربه بعد الجلسة :))
.
روز
8-11-2018