Quantcast
Channel: يرجع الصوت المسافر
Viewing all 362 articles
Browse latest View live

صباح الحب والهرب

$
0
0



(1)
في مثل هذا الصباح
تهرب من القيظ نسمة،
وتدفع الستارة للداخل.
يرى الناظر الخارجي ملابس معلّقة
برتقالية وزرقاء وسماوية
ينتشر بها الورد.
يرى شالًا أخضر متروكًا بإهمال بانتظار دوره في الغسيل،
وطرحة صلاة دائرية شديدة البياض.
يظن أن صاحبة هذا البيت ناعسة،
لا تهتم لشيء
لا يزعجها شيء، هانئة وراضية.
لا يعرف أنها،
ككل صباح،
تدفع الحرب،
وتعدّ المخبأ للهرب.
.
في مثل هذا الصباح،
وأصبحة أخرى أكثر من العدّ،
تستيقظ لتدفع عنها أشباح حرب ماضية
وثانية ما زالت تدور.
ذكرى الهزيمة لا تترك مجالًا لأنفاس وادعة
ولا لتخطيط مستقبلي يقيها المفاجآت
وغدر أوطان كانت عزيزة،
فصارت تستجلب غناءً حنينيًا
للعودة إليها،
واستعطافها،
ونحن في قلبها.
.
تدفع نسمات أخرى،
ستائر المكتب،
فيطالع نفس الرائي
جدارية تذّيلها صورتك
باعتزاز.
على الجدارية قصاصات ملوّنة،
إذ يبدو أنها تعاويذ سحر قديم،
تستحضر جنيات طيّبة،
إلى العالم الذي لا يؤمن بوجودها
ولم يعد الأطفال يصفقّون كي تظل حية
تلك التي قتلها قلة الإيمان بها.
في الصورة،
تبتسمين جدًا،
وتحوطك الأصداف البحرية كتاج.
هل كنتِ تعرفين وقت التقاطها،
أنها سترسل وَنسًا لا حدود له؟
هل أدركتِ من قبل التشابه بينك ورضوى عاشور
في إمالة الرأس للجانب؟
هل تعرفين أنكِ مثلها،
تنشغلين بإعادة خلق مفردات الحياة
كي تكون أكثر صلاحية للسكنى
والانتصار على الفناء والعدَم؟
.
(2)
لكن الرائي لا يطالع المكتبات المعلّقة،
تهريبات الحرب.
لأن الكتب صارت جريمة،
وحيازتها يدعو للتساؤل بغلظة
والتشاؤم حول مصيرها.
فمثلًا: لي أربع سنوات أخفي ثلاثة كتب
تشرح منهج التغيير السلمي
بلا ذرّة عنف
لأن أرواح الناس،
يا للعجب،
مهمة.
على الجدران مُعلّقة لوحات قديمة وحديثة
لثلاث شجرات صممتها بنفسي:
واحدة من دقائق زجاج،
صَعُب عليّ رميته على الرصيف
وتكسّر الضوء خلاله
فجمعته وغسلته وصففته كي يصبح شجرة
ويظل معلّقًا على الحائط
وليس مهملًا على الأرض.
الأخرى، حكايتها أقل مأسوية:
مصنوعة من الحصى الصغير جدًا
لأن منذ طفولتي أحب تجميع الحصى الملوّن،
أو حتى بنيّ اللون فقط.
هل لاحظتِ يا منى،
من قبل
أن ألوان الحجارة لا تشبه الواحدة الأخرى؟
أجمعه من أكوام الرمل المركونة أمام العمارات القديمة
التي يُعاد تجديدها.
أستغل وقت استراحة العمّال
كي أغوص بيدي في الرمل وأستخرج الأحجار الصغيرة جدًا،
لأنني وأنا "شحطة"هكذا،
سأثير التساؤلات لو قلت إنني أحبه وأسمع محادثاته
لهذا أجمعه كي يؤنسني.
الشجرة الثالثة، بقا، لها حكاية:
-ومَن مِن الشجرات الثلاث لا تملك، يا بطيخة؟-
عندي ألوان مركونة منذ عشر سنوات أو أكثر
حتى جفـّت،
أرفض التخلّي عنها لمجرد تغيّر في حالتها.
وضعت ذات ليلة مضنية بعضًا منها في الماء
وتركتها تذوب.
أخرج ورقة بيضاء سميكة،
كبيرة كبيرة،
وأرسم نفس الشجرة، بنفس تفريعات صديقتيها،
وأثقل اللون البنّي الخالص،
بلا تمويجات هذه المرة،
لأن الألوان لا يمكنها محاكاة نسيج الحصى،
ولا مظهره أو ملمسه.
بعدها أرصّ فراشات زرقاء بلاستيكية
حول الأغصان
وألصقها جيدًا كي لا تطير.
نفس الفراشات التي اشتريتِها لي من قبل.
هل تذكريها يا منى،
يا "فندق النور الصغير"*؟
.
في منتصف جذع الشجرة الأخيرة،
ألصق حلية نحاسية دقيقة
تشبه بابًا مزخرفًا ومفرّغًا
بوسطه بلورة عسلية اللون،
تذكرني بصندوق مريمة،
وقد كنتُ أرثى رضوى
في الوقت نفسه الذي ينقصف قلبي
لأجل الخسارة الفادحة
لموت رفعت مرة ثانية،
وعلاء وعبير،
وفقدان الكون رحابته وطمأنته.
لا وحشة في قبر مريمة يا منى،
ولا غُربة حول أحمد خالد،
حتى لو رحل.
.
(3)
الناظر الخارجي لا يعرف أن غرفة المكتب
صارت كنفق مترو مهجور:
مخزنًا للكتب الثمينة واللوحات
وإسطوانات الموسيقى.
وأن صاحبته انضمت لصفوف المقاومة الفرنسية،
تشتري خبز الباجيت وترتدي البيريه،
لكنها لم تفجّر بعد الجسور التي تحمل قوّات الألمان،
لأن الجفاف والحرّ سيتكفلان بالمهمة.
ما سيراه الناظر فقط،
ضياءٌ مشعٌ وحده
ينبعث من صورتك،
فيتحيّر في التفسير
لكن الهواء يكفّ في هذه اللحظة
مغلقًا الستارة
ليتكثّف الغموض.
فمثل هذا الضوء،
يا عزيزتي،
لا يجب ابتذاله بتفسيره.
.
"نحن أحياءٌ وباقون / وللحُلم بقية."**
القليوبية، في 1-5-2018
_______________
* الاقتباس من إحدى قصائد محمود عزّت، طيّب الله قلبه.

** من قصيدة "لاعب النرد"لمحمود درويش.


حرب الذبابة

$
0
0

ما زالت الذبابة داخل منزلي، لم أنجح في التخلص منها، فشعرت بالهزيمة.
حاولت أمس بتكتيكات عدة اجتذاب الذبابة للشباك، حيث سأغلق عليها الضلفة الزجاجية وأحبسها داخلها إلى أن تموت وأتخلص منها، لكني لم أنجح. لا أستطيع قتلها بالمضرب لأني، على ما يبدو، لا أملك مجاراة سرعتها، ولم تخرج بالهشّ العادي وإغلاق الشيش. ما زالت تطارد ساقي وذراعي حتى اليوم فأغرق أكثر في التعاسة.
كنت أطاردها وفي ذهني تتكوّن تدوينة جديدة، مليئة بالغضب: لماذا على النساء فِعل كل شيء، في حيواتهن وحياة الرجال أيضًا؟ تذكرت أمي وصديقاتي المتزوجات، فزاد غضبي. كنت سأكتبها لكن عندما أتخلص فعلًا من الذبابة، لأذيّلها بعبارة ممرورة: "لقد انهرسنا لنغوص في حروب صغيرة تافهة، كمطاردة الذباب، ونشعر بالنصر حينما نتخلص منه."لكن، طبعًا، لم أكتبها ولم تتخلص هريستنا أسفل التفاصيل التافهة التي ترزح بها حياتنا في هذه البلد، بعد.
وجدتني اليوم أفكّر في بناء مدرسة، حلمي القديم جدًا، ولا أعمل فيها معلّمة ولا أي شيء، فقط أضع الفكرة والتمويل اللازم. سرحت كثيرًا ونسيت نفسي، حتى أيقظتني رائحة التوم المقلي الخارجة من البلاعة لتغرق البيت كله وتكتم أنفاسي، فسألت نفسي بهدوء يسبق المدّ على القدمين بالفَلَكة: "لسه عايزة تصلّحي في البلد دي؟"فجاوبت بنفي قاطع، لكي أتقي الفلكة ولأنه، ليست فيس إت: الواقع. أصلّح إيه بلا خرا.
 .
صنعت اليوم مكرونة عظيمة، بصلصة من صوص الصويا وتوابل عدة نسيت معظمها الآن، لكن طعمها كان خرافي الجمال، كنت آكلها وأنا على وشك البكاء. حضّرتها وأنا أقول لنفسي "ما هوّاش قصر ديل والله"عندما واجهتني برفضها لصلصة الطماطم المعتادة، ولا كريمة عندي لصنع الصلصة البيضاء، والجبن الموتزاريلا انتهت صلاحيته. قلت سأخترع صلصة جديدة، والنتيجة كانت عظيمة.
بعدها مباشرة، بدأ منحدر مزاجي في الدحرجة حتى مركز الأرض.
.
لاحظت أنني منذ يومين أترك نفسي في الفراش كل الفترة التي أريدها وزيادة. لا أستعجل نفسي للنهوض، لو كنت مستريحة لا أقلّ راحتي لأي سبب. لو كنت أشاهد فيلمًا ممتعًا، أتركني لآخره، حتى لو انتهى الطعام أي الغرض الأساسي من المسمرة أمام اللاب توب بأفلامه، أكمل الفُرجة لأن لحظات الاستمتاع نادرة هذه الأيام. شاهدت 3 أفلام جميلة جدًا في يومين، وشعرت بالهدوء والسكينة لبعض الوقت. لو رأيت فيلمًا ولم يعجبني، لا أكمل مشاهدته وأمسحه وأنا أشتمه وألعن صانعيه، حتى لو أعجب معارفي. أعجبني اليوم طعم القهوة جدًا، ما زال في سقف حلقي مؤنسًا، وفي بعض الأوقات أسمع "قديم منير"بينما يفصل ذهني قديمه عن معاصره.
طول الوقت هناك أشخاص أحادثهم داخل رأسي: آراء أقولها وردود أرسلها وضحكات وقفشات وإفيهات أفلام تضحكني جدًا. هناك ذكريات أحكيها لهم، وتبكيني في وسط حكيها فأحوّلها لطاقة إيجابية: أحكيها لطبيبي ونحللها ونأخذ ملاحظاتنا معًا، أو أكتبها في تدوينات حزينة تحوز بنسب إعجاب أكثر من أخواتها المرحة. كتبت برأسي قصة قصيرة وقصيدة توجع القلب وتدميه، وأنهيت مقالتي رأي. لكن، لا شيء من هذا يوضع على الورق، ولا على مايكروسوفت وورد.
عندما يكون أصدقائي هنا، أنطلق في رغي لا ينتهي فعلًا، حتى لو آلمني حلقي، آخذ هدنة لأشرب شيئًا ساخنًا ثم أعاود الحكي حتى يصيبني الصداع وأتمنى لو أنام فعلًا. لكن، كل يوم وكل صباح وكل ليلة يصيبني صداع قوي بسبب كمية الإزعاج والضجيج المحاط بهما بيتي، وبسبب ضغطي الهائل على أسناني وأنا نائمة، الضغط الذي كسر لي ضرسًا وربنا يستر ولا يكسر البقية. إذن، ما المشكلة في بعض الصداع المصاحب للصحبة الحلوة والضحك من القلب؟
.
قرأت كلام صديقتي عن الاستقالة من العمل المقرف، منذ يومين، وطوال هذه الساعات تتكون في رأسي أشياء أريد قولها.
أول وظيفة استقلت منها كانت بسبب واضح و"مفهوم"لمن حولي: مرتبها صغير جدًا، لا يكفي حتى المواصلات، وكان جلدي ساعتها أثخن، أركب المترو والميكروباص ولا أشتكي. كان السبب الخفي أنني لم أحب العمل في الترجمة، أردت شيئًا"أكثر ابتكارًا"، تحديدًا رغبت في العمل بالنقد الأدبي، وأردت الدراسة لأجله لأحقق حلمي. قالت لي مديرتي المباشرة في تلك المؤسسة العربية، واسعة الانتشار عظيمة المكاسب: "إنتي تحمدي ربنا إنك اشتغلتي أول ما اتخرجتي، وده مرتب الخريجين الجداد يعني إحنا مش بنظلمك."وعندما شرحت لها بتجهم أن ما أفعله لا يرقى ولو لعُشر أحلامي، صمتت قليلًا وبان عليها الحزن، ثم قالت "كلنا مش بنعرف نحقق أحلامنا.. بس إنتي حاولي، ربنا يوفقك."
طبعًا، حاولت، ولمّا كانت مصر، أي محيط مدينة نصر ومصر الجديدة فقط، حسب تعريفات أمي، لا تملك أي دراسة محترمة للنقد الأدبي ولا مدارسه أو مذاهبه أو تطبيقاته ولا حتى بابا غنوجه، بحثت عن دراسة بالخارج. وصلت فعلًا لـ"كلية أحلامي"واتجهت مبتهجة بسذاجة نحو أمي، التي كانت "لسه جاية من برة"أي الوقت الوحيد الذي يمكننا أن نراها فيه، وأخبرتها بأنني أريد السفر. صمتت وقالت "لما تتجوزي". ولم أحاول ثانية.
ظل حلم السفر يطاردني حتى حاولت هذا العام مواصلته، فقط لأتلقى رفضًا متتاليًا من 4 جامعات بريطانية، بالإضافة لفشلي في الحصول على منحة. أرجأت هذا الحلم قليلًا لأنني لم أتعاف بعد من الصدمة.
كل الوظائف التي استقلت منها بعد ذلك كانت لي أسباب وجيهة جدًا، رغم اعتراضات كل من حولي بأن عليّ أن "أجد وظيفة ثانية أولًا".. كيف ولم أكن أملك أي وقت ولا مجهود للبحث عن أخرى؟
يحذرونني من الجلوس في المنزل لأنه يجلب كآبة، وإفلاسًا طبعًا. لم أقلق كثيرًا حيال الإفلاس لأني في كل الأحوال والوظائف كنت أستلف من أمي فقط لأكمل احتياجاتي الأساسية، و"اسمي باشتغل"، بينما الكآبة تلازمني ولم أتكمن بعد، من طردها من داخلي.
في النهاية، استسلمت أخيرًا لصوت جسمي ونفسي: لم أعد أستطيع العمل بنظام الدوام الكامل.
في بداية هذا العام، كنت أحادث صديقي فقال عن وظيفة معروضة أمامه "يا ريت متبقاش دوام كامل، ما عادش فيا حيل أصحى بدري وأنزل كل يوم."فشعرت بالارتياح.
نظام العمل كل يوم، في مكان محدد، في ساعات محددة لا تتوافق غالبًا مع الساعة البيولوجية بداخلي، شيء قاتل، شيء لم أعد أستطيع التعامل معه، خلاص شطبّنا.
قررت العمل من المنزل، بمواعيدي ووقتي أنا، أنا من أحدد بيئة العمل ومن أخاطبه ومن أتجنبه، والملابس التي أجلس بها للمكتب، ودرجة الحرارة والتهوية الملائمتين لي. مللت من محاولات التأقلم والتصرف بتحضر مع من حولي بينما أودّ تفريغ كتيبة كاملة من بمب العيد في عمق آذانهم، ثم أمشي متهادية نحو الباب ولا أعود أبدًا.
على أني لم أستطع بعد ضبط أي شيء في حياتي، أي شيء. والخبر الوحيد الجيد أنني خسرت بضعة كيلوات حتى إن طبيبي كاد يرقص من الفرحة، بينما جيبي خاوٍ وتواجهني السكّرية شبه الفارغة بأسئلة صامتة تعذبني فأتوقف عن شرب الشاي كي لا أفتحها أكثر من مرة القهوة، في اليوم.
.
تلعب بي هرموناتي ومزاجي المتقلب وبقايا ماضيّ وصوت الحرب الدائرة أسفل شباكي، فتجعلني أخرج بتدوينات شديدة الكآبة والبضان، تفسد مزاج من يقرؤها. ولأجل هذا أعتذر.
روز
5-6-2018

إجهاض متكرر

$
0
0
لسبب ما، تحاصرني مجازات الحمل والإنجاب، في آخر أسبوعين، الآن.
كنت أصنع غطاء للمبة قوية الإضاءة، كي يخفف من حدتها ولا تصيب عيني مباشرة، وأقول لنفسي: ليس من الضروري أن أحمل طفلًا حقيقيًا بداخلي كي أكون "خالقة"، أو واهبة للحياة أو أيًا كانت مرجعيتك الدينية. يمكنني فقط إصلاح الكرسي المكسور أو خياطة الستائر، أو حتى صنع صينية لازانيا عظيمة.
أنهيت الغطاء وعلقته على اللمبة بخطاف جلبته خِلسة من بيت أمي، ووقفت أنظر إليه بعدما نزلت من على الكرسي. شعرت بالفخر، وبالكآبة في نفس الوقت: كنت أنتظر زيارة لم تأتِ حتى الآن.
وضبت المنزل ومسحت الأرضيات كلها مرتين في 10 أيام، بل إني مسحت رفوف المكتبات من التراب، ووضبت نسخي من الكتابين، ووضبت المنضدة الوسطى التابعة للأنتريه. عندما وصلتني المكالمة أن صديقي لن يأتي، أصبت بكآبة عظيمة، ودخلت السرير لأرقد فيه.
لا أصدق أن كل محاولاتي تفشل على هذا النحو. ليس "كلها"حتمًا، وإلا استيقظ وحش "بلاش مبالغة"من أعماق مكمنه ولطمني على رأسي ونظر لي بعتاب صارم ثم رحل. هناك أشياء فعلتها صح، صداقات اكتسبتها وآلام تعالجت منها وبراح شعرت به، ولو لبعض الوقت، ولو كان إلى زوال. سأظل ممتنة لمدينة العبور لأني وجدت بها أروع طبيبة علاج طبيعي حتى الآن، ساعدتني على تقبل نفسي كما هي، ولم تؤنبني على وزني الزائد، وكانت تعتذر لي في كل مرة تؤلمني فيها، ثم أعلنت في النهاية أنني بحاجة للمواظبة على التمارين فقط، وأن أجعل الرياضة نمط حياة لي للأبد، وبالتالي، لا داعي للقلق.
كل طبيب قبلها رآني هز رأسه بأسى وقال ما معناه "مفيش فايدة"بشكل جعلني أومن أن عليّ حفر قبري حالًا وانتظار الموت. لكن صديقتي طبيبة الروماتيزم، إيمان، عندما رأتني قالت "كلها حاجات بسيطة"، ثم بحثت عن مركز للعلاج الطبيعي في العبور، ولما وجدته وذهبت لأول حصة مع ندى، ضحكت أيضًا وقالت "الموضوع بسيط".
قبل رمضان بيوم دعتني ندى لمنزلها، فأحضرت لها نسخة من كتاب إبراهيم أصلان "خلوة الغلبان"كانت عندي زائدة، اشتريتها لأجل إهدائها "للحبايب"فقط، ولا تخرج لأي شخص. كتبت لها كنوع من الإهداء: "إلى الطبيبة التي أعادت لي إيماني بالإنسانية: أرجو أن تكون هذه المجموعة مقدمة جيدة لأدب إبراهيم أصلان."
قالت لي ندى بعدها إنها تحب جدًا إهداءاتي، وتنبسط منها. ما لم تقله أنها، ككل شخص آخر، تجد سعادة في مدح عملها ونتيجة جهدها، السعادة التي أتوق فعلًا للحصول على كثير جدًا منها، ومعها أطنان من المال طبعًا.
 .
نافذة المطبخ تطل على الشارع، ولصقها مباشرة عدة نوافذ تطل على أعماق بيوت أشخاص آخرين. المشكلة الأكبر أن نافذة الحمام تقع داخل المطبخ، وبالتالي لو اختنقت من رطوبة الدش وأردت التهوية قليلًا قبل أن أكمل ارتداء ملابسي، لن أصاب بالتهاب رئوي فحسب، بل سيعرف جيراني في شقة 13 مقاس "الكومبيليزون والبتاع"ولا يمكنني ترك هذا يحدث، لأنه "إلا البتاع.. ده كاسكور يا أخويا."
منذ جئت هذه الشقة، أردت تركيب "تندة"خارجية بحيث تدخل الهواء وتمنع تسرب المعلومات حول المقاسات والألوان والذي منه، لكني وجدت التندات غالية جدًا. سألت أصدقائي فقال لي فضل في يوم حار كنا فيه نحاول التقاط أنفاسنا في الزمالك، إنه من الأفضل تركيب "منشر"وستارة خارجية وربطهما ببعض، ستكون تندة عظيمة. أعجبتني الفكرة فذهبت لتفصيل ستائر لهذا الغرض.
لكني منذ سكنت لم أفلح في تحويش قرشين إضافيين لتركيب لا منشر ولا ستائر خارجية، لذلك ارتضيت بوضع أي شيء على المواسير التي تمر من فوق النافذة. في البداية كانت ملاءة قديمة تغطي الأنتريه العتيق الذي "اتى مع الشقة"كنوع من تخزين الكراكيب فيها. بعد أول زيارة لأصدقائي في بيتي، محمود وفريدة وابنيهما، شعرت بالخجل من المنظر فذهبت لبيت أمي وأحضرت الأقمشة القديمة جدًا، التي كانت أمي تفصّل لنا منها البيجامات وملابس الخروج وكل شيء، والمركونة في دولابها، ورحت أوظفها بكل شكل ممكن. صنعت ستارة مرتجلة باثتنين منهما، شبكتهما ببعض وبالمواسير باستخدام الكثير من دبابيس المشبك. ستظل تلك الستارة، الصفراء الفاتحة جدًا وبها الكثير من الزهور والفراشات الوردية والخضراء والصفراء، من أحب الستائر التي علقتها على شباك المطبخ، لقلبي.
المدهش أنني لمست "تغير الأحوال"بنفسي، وليس فقط كلامًا نظريًا يقوله لي طبيبي النفسي وأهز رأسي ولا أصدقه وأعتبره من الحالمين و"إنتا فاكر إن ده ح يحصل؟ هأو."عندما رأتني أمي أخرج الأقمشة القديمة لآخذها معي إلى بيتي، سألتني ماذا سأفعل بها فقلت باقتضاب "ستائر". قالت لي أن أترك اثنتين منهما لأنها ستخيطها لي وتضع فيها الشرائط ذات الحلقات التي نضع فيها حلقات أخرى ونركبها على مواسير الستائر، عملية بالغة التعقيد، لكن أمي التي طالما كانت ماهرة في أشغال الإبرة وعندها 3 ماكينات: خياطة وتقفيل وتطريز، نجحت في الانتهاء منها في ظرف ساعتين. إحداهما، برتقالية و"كنزة"وقصيرة، وضعتها على نافذة المطبخ بعدما أنزلت الصفراء ذات الزهور الوردية لغسيلها، لأنها امتلأت ترابًا وكتمت صدري الذي يعاني من الحساسية –وانكسار القلب، على رأي لبنى. وضعتها فمنحتني عصريات برتقالية بديعة، خصوصًا عندما أتى الربيع وتحول مسار الشمس لتغرب ناحية المطبخ، فينكسر ضوؤها عبر الستائر ويأتي بألوان خريفية لا أحب تأويل معناها.
الآخرى، لها حكاية حزينة إلى حد ما. هي بيضاء تمتلئ بزهور وردية وبنفسجية وخضراء وصفراء غامقة، ألوان ترقص القلب خاصة لو أتى ضوء الشمس من ورائها والشيش نصف مغلق لحجب أعين الجيران التي تحتاج لكتيبة كاملة وحوائط صدّ ومدافع رشاشة و"القوااااااات تتقدم". لكن، عندما أخرجتها من الحقيبة المركونة أسفل سرير أمي وقلت لها إني أحتاجها، قالت بنصف ابتسامة حزينة "كنت عايزة أعملها جلابية ليا."لكني كنت في حالة سيئة من المرار والسخط، فأنكرتها عليها، وقلت لها إنني أريدها ستارة ومعلش يعني. منذ علقتها على شباك غرفة المكتب وأنا أشعر بالذنب: لماذا أنكرت على أمي أن ترتدي شيئًا مبهجًا ومليئًا بالألوان خاصة وأن الصيف قادم؟ عزائي الوحيد أنني حين أنزلها الآن، لأضعها في الصناديق استعدادًا للعودة، ستتمكن أمي من خياطتها جلبابًا بديعًا يستدعي صورًا سعيدة للمصيف والبحر والضحك، حينما لم يكن القلب مثقلًا هكذا ولا الدنيا زحمة ودوشة جدًا، هكذا.
على أن حتى الستارة البرتقالية لم تكفِ لاتقاء الفضول.
اشتد الحر فاحتجت لفتح شباك المطبخ أكثر، خاصة أن الشقة صغيرة جدًا ولا مجال للتهوية إلا بفتح كل النوافذ على آخرها، وحتى حينها سيظل الجو حارًا يكتم الأنفاس. لكن كلما فتحت الشباك أكثر رفع الهواء الستارة القصيرة فانكشفت، وده ما يرضيش ربنا. لذلك، قررت إنزال الستارة البيضاء الباهتة، التي علقتها أمي لي بنفسها على مدخل "جوة البيت"الذي يضم غرفة النوم والحمام والطبخ، والذي يبعد بالمناسبة خطوتين عن باب الشقة وبرة البيت والشارع والكوكب كله. أنزلتها وشبكتها في واحدة مماثلة لها كنت أركنها لأني خجلت من إعادتها للمنزل أمام أمي ثم نسيت وجودها. وضعت الاثنتين لصق بعضهما لأنهما، كالعادة شفافتين وإحنا ما بنهزرش، لو سأفعل شيئًا ما سأفعله صح وأنجح فيه. في النهاية تسلقت الكرسي وأنزلت البرتقالية وشبكت البيضاء في المواسير، ونزلت وألصقت أطراف الستارة في جدار الحمام المقابل لشباك المطبخ، بحيث تنفتح لأسفل: تعطي هواءً وتحجب الرؤية.
عندما فتحت النافذة لأجرّب، اترزع باب غرفة النوم بعنف دليلًا على شدة الرياح، ولم انكشف ولا بوصة للجيران. ساعتها ابتسمت بفخر: إحنا مش هفيّات يا أستاذ.
.
لكن المنحنى انخفض ثانية وانخسفت به الأرض.
قضيت آخر أسبوعين أشعر بالوحدة. صحيح أنني أعيش وحدي أساسًا، لكن كان يؤنسني الأصدقاء الذين أحادثهم أو أقابلهم أو حتى أرسل لهم الرسائل. وساعات الأشخاص الذين يعيشون بداخلي يتشاجرون وأبذل جهدًا لإقناعهم: "مش كده يا بابا يا حبيبي مش كده، عايزة أشتغل"أو "عايزة آكل حرام عليكي اخرسي شوية."ساعات كنت أحب الوحدة فعلًا لدرجة أنني أغلق الهاتف وأفصل كل مواقع التواصل وأجلس لأعمل أو أشاهد فيلمًا أو أطبخ، أو أطيل وقت رقادي في الفراش عن المعتاد، لأمنح ظهري وقت راحة أطول. لكن، خلال هذين الأسبوعين، كنت وحيدة جدًا وصامتة جدًا، حتى نسخي الداخلية توقفت عن الشجار وراحت تعلّق ممرورة على كل شيء وتنغص عيشتي عليّ أكثر.
انتظرت عدة أصدقاء فلم تسعفهم ظروفهم للحضور. مللت من مطاردتهم بالمواعيد إلا واحد منهم، ركبت دماغي وحلفت أنه سيأتي يعني سيأتي. راح صوت العقل –الخافت جدًا حتى شكيت في حصوله على إجازة دون علمي- يحاول إقناعي: لا يمكنكِ التحكم في الظروف، لا يمكنكِ إجبار أحد على الحضور وهو لا يريد، لا تخرجي غضبك وإحباطك على البني آدمين وتذكري أنهم غلابة، هؤلاء على الأقل غلابة، راعي ظروف الناس، الاكتئاب كاس ودايرة، ارحمي أمي شوية غلبت معاكي.
في النهاية، اشتريت ورق عنب بعدما لفيت "الجيرة"كلها عليه، وكانت زحمة وضوضاء وإزعاج وسيارات تدخل في بعضها وناس تزعق وشحاتين وحر ورطوبة وأطفال تجري فترتطم بي وظهري يوجعني بشدة. شعرت بأن ورق العنب اكتسب وزنًا أكثر من حجمه الحقيقي: مجرد أكلة تتعب لي القولون بشدة لكني أريد صنعها بطريقة مختلفة هذه المرة، وأريدها أن تكون من أواخر "أول المرّات"في بيتي: أول مرة ألف ورق عنب بنفسي ولنفسي، أول مرة أصنع اللازانيا، أول مرة أشتري زرعة حبق وأصنع شايًا كاترينيًا بالحبق والنعناع، أول مرة أمتلك أطباقًا كثيرة وكلها ملونة لا مكان للأبيض فيها ولا يشبه الواحد الآخر.
لكني عدت للمنزل مرهقة بعنف، فقط كيلا أتمكن من النوم لأن أولاد الجيران، أولاد شحيبر الكلب كما أدعوهم، لم يتوقفوا عن الضجيج ولا حتى بعد الفجر وشروق الشمس. خرجت للبلكونة وصرخت بأعلى صوتي بأنهم لا يعرفون أخلاقًا ولا رباية، ومنعت نفسي بعنف من سب آبائهم وأمهاتهم كيلا يخرج هؤلاء "شحيبر الكلب"ليردوا عليّ الإهانة، مع الاعتذار للكلاب طبعًا التي لا تملك ربع حقارة ووطي وخسة البني آدمين.
على أنني حينما دخلت من البلكونة شعرت بهزيمة ساحقة.
بكيت للسقف ورجوت من ربنا أن يرحمني عشان كفاية كده أوي يعني. وضعت خطة بعدما أخذت حبة منوّم أخرى كنوع من التوّسل، وقلت إنني سأنزل وأحضر كراتين وألصقها وأبدأ في رص حاجياتي فيها والرحيل. قلت إن الحكيم وحده من يعرف الوقت المناسب للاعتراف بالهزيمة وبأنه ضُرب حتى الأعماق وعليه الاستسلام. في كل الأحوال، كان عليّ "إخلاء الشقة"قبل العيد بسبب خلافات عائلية، لذلك لم يكن هناك بدّ من تأجيل المحتوم.
لم يأتِ صديقي، وقبيلة شحيبر لم يطلع لها صوت عالٍ جدًا اليوم على غير العادة، وما زلت أشعر بالوحدة، وورق العنب في الثلاجة كما هو لم يُغسل حتى، ولو عرفت أمي بهذا الأمر ستقتلني بصفتها عضوة فاعلة في نقابة المدافعين عن حقوق ورق العنب الأخضر، وما زلت أسمع أغانٍ ومقطوعات موسيقية حزينة من سلسلة أفلام "هاري بوتر"، لم أنجح في وضع غيرها ولا التوقف عن سماعها.
لكن، غدًا يوم آخر.
.
روز
العبور، في 6-6-2018

رسالة 2 إلى مو صلاح

$
0
0
الصورة من صفحة Ballerinas of Cairo

مساء الخير يا صلاح
مساء الخير جدًا، مساء الحب والخير والجمال.
أجدني حزينة ومثقلة ولا أستطيع إلا الكتابة كي أخفف عن نفسي قليلًا. كل أصدقائي حزانى أيضًا، ولم تنفع معنا الزيارات ولا قعدات الحكي ولا فناجين الاسبريسو أو مشاهدة الأفلام القديمة المضحكة.
أفتح الفيس بوك بعد استيقاظي مباشرة وقبل الإفطار أو تناول القهوة، وهذه جريمة كبرى لأن ما أراه مبكرًا هكذا يصبغ يومي كله، بصبغة غالبًا لا أحبها ولا أستطيع معها مواجهة اليوم ولا الأحداث.
رأيت صورك: قبل ماتش يوم الثلاثاء وبعده، في أثناء التدريب. حزنك كسر قلبي فعلًا، أكثر من كسرته السابقة، فقررت الكتابة إليك.
.
ما لا تعرفه يا صلاح، أنك بداخل قلبي جدًا، وتفاصيل حياتي.
.
(1)
في فبراير الماضي، كنت أخرج من غيمة تعاسة عملاقة حجبتني عن "مجريات الكون"، فلاحظت أن تونس ستشارك في كأس العالم، ولأجل هذا صنعت شركة الاتصالات لديهم إعلانًا شديد اللطف والجمال. كنت أشاهد الإعلان وأتحمس، أسمعهم يقولون "الكورة موش في الساقين"فأؤيد كلامهم وأصدق عليه.
أذكر أنني توجهت لأول حصة لديّ في العلاج الطبيعي وأنا أريد أن أرسل لك: أشاهد الإعلانات التونسية لكن أحادثك، عادي يعني. أقول لك "رايحة أول جلسة دلوقتي، ح أخف وأبقى رياضية زيك تمام"وأضحك.
لكن، بعدما عدت من أول حصة، لم أكتب لك لأني كنت منهكة جدًا وأنفاسي متقطعة، توجهت للنوم مباشرة.
.
(2)
في نفس الفترة، بدأت الاعتماد على عكّاز، أو عصا شديدة الأناقة أعارها لي صديق عزيز جدًا، لأني لم أستطع الارتكاز على ساقي اليمنى وبالتالي المشي عليها.
لم أرد ساعتها أن أرسل لك لأخبرك بذلك، خجلت من الأمر وشعرت بأنني "أقل منك"لأنني لست في كامل لياقتي أو مقدرتي على الحركة.
ما لم أعرفه يا صلاح أن الإنسان لا يُحاكم قياسًا إلى المصاعب التي تحدث له، بل قياسًا لما يفعله، وكيف يواجه تلك الاختبارات والمشاقّ.
.
(3)
في مارس، كتبت لك تدوينةمبتهجة جدًا، رسالة حكيت فيها لماذا أعتز بك جدًا، وكيف أصبحت فعلًا جزءًا من حياتنا، أنا وأخي الأصغر وابن أخي والكثير جدًا ممن حولي من أشخاص. لم أكن وقتها أستخدم التويتر وإلا كنت أرسلتها لك.
لكن، في تلك الرسالة، قست نجاحك وإعزازي لك بما تسدده من أجوال: كم ضربة ومدى عبقرية التمريرات. كنت سطحية يا صلاح، واعذرني على هذا.
.
(4)
بعدها بنحو شهر ونصف انتهت جلسات العلاج الطبيعي، التي اختبرت صبري ومدى تحمّلي للألم وطريقة تعبيري عنه. كانت الطبيبة تتبع معي منهجًا جديدًا في العلاج يعتمد على ضبط العمود الفقري وفرد العضلات المنقبضة بالتدليك، وهذا يشبه الوخز في مركز الأعصاب تمامًا: شديد الإيلام.
كنت أخجل من الصراخ كي لا أضايق الطبيبة اللطيفة جدًا، فكنت مثلًا أثني ساقي كلما شعرت بالألم، أو أعض على شفتي أو آخذ أنفاسًا عميقة. أذكر أن الطبيبة كررت بعض الحركات المتتابعة المؤلمة، فأثني ساقي بحدة مع كل حركة إلى أن توقفت. وجدتها تتوقف هي الأخرى وتسألني "ما تنيتيش رجلك ليه؟"أجبتها "زهقت بقا"وضحكنا بقوة حتى تعبنا.
كانت أول طبيبة أضحك معها وهي تعالجني: لم تكن متجهمة ولا وجهت لي اللوم بسبب طريقة جلوسي الخاطئة على المكتب أو تكاسلي في ممارسة الرياضة إلخ. كنا نتحدث كثيرًا ونتبادل الآراء حول الأفلام والكتب والأشياء المختلفة، ونضحك كثيرًا جدًا، وتعتذر لي إذا آلمتني، والأكثر جمالًا: تمنحني الأمل، أنني لو واظبت على الرياضة والتمارين سأشفى تمامًا، ولن أكرر زيارتي لها -وبالتالي سأتجنب الألم- ثانية.
كانت تعطيني الأمل يا صلاح وكنت أفكر فيك وفي المتاعب التي تحملتها والمواصلات الكثيرة التي ركبتها كي تصل من نجريج للقاهرة لتتمرن، وأقول إنني لست أقل منك عزيمة وقوة، وسأصبح مثلك في يوم من الأيام.
.
كانت حكايتك ومعاناتك السابقة تلهمني وتجعلني أتحمل ألم العلاج الطبيعي، إلى أن انتهى.
.
(5)
قبل رمضان بفترة بسيطة، استغنيت عن العكّاز.
صرت أمشي بشكل طبيعي، وإن مِلت إلى التمهّل وتجنب المشي الطويل والاستناد على ذراع من يمشي إلى جواري. فرحت سعادة لا حدود لها: صرت أمشي أخيرًا.
فكّرت في الكتابة إليك، مجددًا، لكن التكاسل ملوش كبير، كما تعرف.
نزلت أمس لمقابلة بعض الأصدقاء، ففوجئت بخطوتي على الأرض يا صلاح: قوية وواثقة وسريعة. أخبط الأرض بقوة فأتمنى أن أبعد عنها وأطير، أطير فعلًا وأصل لمكان المقابلة سريعًا، أدق على الرصيف بقدمي فأُسمع الأرض خطواتي: أنا هنا، ما زلت هنا، يمكنني أن أصنع التاريخ، يمكنني أن أغيّر مرارة الفترة السابقة، أغيّر معطيات حياتي فأجعلها أكثر إشراقًا وأملًا، أكثر حركة وحرية.
.
عندما سقطت على السلم ثم نهضت كأن شيئًا لم يحدث وواصلت الركض، ترجّاني جسمي أن آخذ هدنة. تجاهلته فعاقبني: توقف عن الحركة، فوجب الاعتناء به والانتباه لطلباته. سنوات طويلة من إهمال الشمس والألبان والتغافل عن الحركة والرياضة، أدفع ثمنها الآن.
لكني عازمة على تغيير هذا الواقع يا صلاح، وإنشاء واقع جديد لي، بشروطي أنا، متى استطعت.
.
(6)
ربما أختلف عن الآخرين: يريدونك أن تحرز أهدافًا كثيرة وتصل بنا لكأس العالم ونربحه ونتسيّد الكون ونشتري المجرات البعيدة بالمرّة، فعندما لم يحدث هذا نبذك بعضهم وامتعض وانقلب عليك.
لكنك، بالنسبة لي، مختلف: حاولت فاستطعت، سعيت فوصلت، ثابرت فجنيت، اتجهت للمكان الصح فأثنوا عليك وأبهرتهم مهاراتك.
سأكون مثلك يا صلاح، سأفعل مثلك تمامًا، ولن أتوانى: أقع فأنهض، أتعثر وأكبو فأمدّ يدي وأستند وأقوم، أحاول فأصيب مرة وأخطئ مرات.. لن أتوقف عن المحاولة ولا عن النهوض بعد العثرات، وفي الطريق سأعتني بجراحي كي تُشفى جيدًا وتلتئم.
.
كن بخير يا صلاح :)
روز
القاهرة، 22-6-2018

"هكذا تدور الأشياء في عقلي"

$
0
0
"هكذا تدور الأشياء في عقلي."
بالجملة السابقة كنت باختم بعض محادثاتي أو تعليقاتي مع الأصدقاء. كنت باقولها كنوع من "تبرير الغرابة"اللي ظهر بيها كلامي، أو ليه التعليقات مكنش ليها علاقة أوي بالكلام اللي اتقال. باقولها لأن طبعًا، وأنتم سادة العارفين، الأشياء بتدور في عقل كل واحد فينا مختلفة عن العقول الأخرى.
.
(1)
أكتر مثال مشهور على الجملة دي، هو الذعر والهلع والوعيد بالعذاب الشديد اللي أمك بتعمله لما توصل الساعة 12 بالليل وإنتا لسه برة البيت، خصوصًا لو كنتي بنت. في عقلها يا إما اتخطفتي واغتصبتي يا إما بتعطّي مع شباب مش كويس، واللي طبعًا مش ح يتجوزك بعد ما "مشيتي معاه"ومش ح تعرفي تداري فضيحتك. ولو ولد، يبقى إنتا اتخطفت وموبايلك اتسرق واتقفل وح يتصلوا بيها حالاً يطلبوا فدية، مع إن والله عادي الحاجات دي ممكن تحصل 12 الضهر رغم إن الحرّ الشديد أحيانًا بيعطّل خطط الاختطاف وانتظار اتصال "اللهو الخفي"، لكن هكذا تدور الأشياء في عقول الأمهات.
.
بالمناسبة رغم إن المثال يبدو على شيء من الفكاهة أو التندّر، فالهلع ده بيدمّر علاقات وشخصيات وبيزرع الجبن والخنوع مش "سمعان الكلام"، لكن خفة الدمّ حكمت.
.
(2)
لو مجموعة من المصريين شافوا بنت مهتمة بمظهرها وشكلها وماشية رايقة ومش مكشّرة، "الأشياء في عقولهم"بتخليهم ينقسموا لعدة مجموعات بس أنا ح أختار منها اتنين بس:
1- يا سلام دي شكلها واثق من نفسها برافو عليها والله.
2- دي فاكرة نفسها مين؟ دي أكيد لابسة كده عشان عايزة تتعاكس. يالا نتحرش بيها.

المجموعة الأولى اللي هيا بنات غالبًا، جوة نفوسهم بيبقوا عايزين يعملوا زيها وينبسطوا وهما ماشيين في الشارع ورايحين الشغل أو الكلية أو حتى رايحين المقصلة المهم يبقوا لابسين على مزاجهم، لأن اللبس المريح المتلائم مع الجو القذر ده مؤكد ح يجيب لهم الكلام، لأن المجموعة التانية هي المتسيدة في الشارع المصري البضان "المتدين بطبعه"بغض النظر هي محجبة أو لا، حيث يقول الواقع والإحصائيات إن 98% من الستات المصريات تعرضن أو ما زلن يتعرضن للتحرش في نفس المجتمع المتدين بطبعه، ودي سكة مش عايزين نخوض فيها دلوقتي.
.
(3)
ليه ده بيحصل؟ ليه الاختلاف؟
والله يا أفندم تكاثرت الأقاويل حول هذا الأمر، فيه نظريات بتقول إن التركيبة المعرفية للمرء بتأثر في حكمه على الأشياء والأشخاص، وأخرى بتقول إن التنشئة النفسية ليها عامل مؤثر برضه، وثالثة بتقول العادات والتقاليد، ورابعة بتقول التعليم اللي حظى به المرء واللي بيؤثر على كيفية تدوير كل هذه العوامل في عقل البني آدم. نظريتي هي كل ده على بعضه كده.
.
التركيبة المعرفية ح تخليك تقرا مثلًا، وتقرا لناس بعينهم دون الآخرين، وبالتالي دماغك تتكون بآرائهم لحد ما تطلع رأيك لوحدك المبني على خلاصة القراءات دي مضاف عليها تجربتك الشخصية واللي إنتا عملته وشفت إنه صح. طبعًا دي عملية شديدة التعقيد ومش كل حد بيوصل لها، فا بيبقى عندنا يا إما حد مقتنع أشد الاقتناع باللي قراه حتى لو اللي قراه غلط، يا إما ما بيقراش أساسًا.


فيه بقا التعليم، أو "مقدار عدم التعليم"اللي حصل عليه المرء، وفيه اللي بيسمعه من التلفزيون وهو كثير وكله تقريبًا إلا حبة صغيرين مضلل. فيه اللي بيتقرا على "وسائل التواصل الاجتماعي"اللي بقيت باكرهها بشدة رغم إني باستعملها لتوصيل أفكاري وكلامي لكن لأني مش لاقية وسيلة أخرى. وفيه تأثير الأقران، يعني أنا شايفة إن الرئيس ترومان ده راجل مجدع وصح الصح، لأن أصحابي شايفين كده، على الرغم من إنه -أو بسبب، على حسب قناعاتك- أمر بـ"تجربة السلاح الجديد"على اليابان، واللي طلع إنه القنبلة النووية.
.
العادات والتقاليد، من أول الشهقة مع طشة الملوخية، اللي درجة الإيمان بأهميتها توصل لمستويات متطرفة زيها زي غيرها من الأفكار، لغاية "البنات عندنا ما بتسافرش من غير جوزها"أو "ما بتختارش جوزها"من أساسه أو "ابن الدكتور ح يطلع دكتور ولا الناس تاكل وشنا"كإننا عايشين وسط مجموعة من الزومبي اللي بتتغذى على الوشوش تحديدًا، واللي صدقني الحياة وسطهم كانت ح تبقى أسهل بكتير. العادات دي والإيمان بيها بيخلي ليها قوة القانون، وأقوى من التعاليم الدينية في أحيان كتيرة جدًا، حتى لو وسط ناس بتدعي إنها مؤمنة بالوحي السماوي وبالحساب في الآخرة.
.
التنشئة النفسية، ودي آخر حاجة ح أتكلم فيها من العوامل لأن كُتر الكلام ما بيعلمش قد ما بيملّ، أعتقد إنها من أكتر العوامل تأثيرًا على تكوين "الأشياء."في فيلم "عسل إسود"كان سعيد -إدوارد- مقتنع أشد الاقتناع إن ميرفت بالفاء مش ح تبص له لأنه معهد سنتين وهي مدرسة إنجليزي، رغم إن في الآخر مستوى تفكيرهم وتعليمهم محصّل بعضه وما أسخم من ستي إلا سيدي، لكنه كان بيبص للأرض بذل وبيحتقر نفسه لأنه معهد سنتين ومش بيشتغل كمان، فا استحالة ميرفت بالفاء تبص له.
مكنش فيه في الفيلم على حسب ذاكرتي ما يشير لتأثير البيئة المباشرة -الأسرة ووالدته تحديدًا- على الإحساس الساحق ده بالدونية والذل وإنه ما يستاهلش، لكن دي النفسية المعتادة والمنتشرة بشدة بين أبناء الطبقة المتوسطة اللي بنعمل لها باي باي دلوقتي وبنحضّر نفسنا نبص فوق كل شوية نقيس إحنا وصلنا حدّ الفقر ولا هو بيبعد عننا وإحنا عمالين ننزل.
.
أغلب سرديات التنشئة دي بتعتمد على "هو ابن خالتك أحسن منك في إيه"على الرغم من إن التساؤل المستنكر ده قد يجلب الضحك، لكن فكرة "أنا مهما عملت مش كفاية"وإن "ما أرضاش إلا بالدرجة النهائية = الكمال مهما عملت"بتخلي ناس يمكن كبيرة كده وبتشتغل ومعاها فلوس مكفياها بس لسه بتبص للي معاه "أكتر"أيًا كان الأكتر ده إيه، وتحس إنها أقل منه، رغم إن "الأكتر"ده يمكن ما يحسنش معيشتهم أو يخليهم مرتاحين أكتر. الإعلانات بتخلي الإحساس ده مستعرّ ومولع كده وحرّاق عشان تشتري أكتر وهما يبيعوا، طبعًا، أكتر.
طبعًا كلامي مختلف عن التعريص المتغلف بطبقة دينية يصاحبها تسبيل العينين، اللي بيدعو الواحد إنه "يرضى"باللي عنده وما يبصش لغيره رغم إنه ممكن يكون "معندوش أساسًا"وبيبص لحاجات تعتبر من حقوقه، واللي بيقوله "يرضى"ده بيروّح بعربة مذهبة تقودها أحصنة مجنّحة بيضاء!
.
وده نفس الإحساس اللي بيخلي ناس تبص لوشوش بتظهر على التلفزيون في ربع ثانية مثلًا، ويفتحوا بقهم ويريّلوا: إيه ده دول شعرهم أشقر؟ إيه ده لونهم أبيض؟ إيه ده وشهم مورّد وباين عليه الأكل الكويس والنعمة؟ إيه ده لابسين مكشوف ومش كل ثانية يحركوا طرف البلوزة/الطرحة/المعصم اللي بيتلبس لوحده /طرف واتيفر عشان يغطوا نفسهم كويس؟
إييييييييه ستات حلوة إيه الجمال ده إيه العظمة دي يا ستاتك يا روسيا يا ستاتك يا ألمانيا أنا كنت بحب صندل في مصر.
.
طبعًا، نفسية "هما أحلى وإحنا طول عمرنا معفنين"بنفس سردية ابن خالتي الأحسن مني، ح تقارن مباشرة بين الاتنين، مع إن الكل عارف تمامًا ومتأكد إن الشقر البيض المورّدين دولت لو نزلوا مصر بلبسهم الحلو ده ح يرجعوا بلدهم جثث تتحط في متحف "كرب ما بعد الصدمة"، وانزلوا الأقصر في أي وقت من السنة واسألوا الناس عن معدلات السياحة اللي بتتراجع بسرعة ميكروباص مصمم إنه يخبط في سور الكورنيش عشان يسبق التوك توك اللي جنبه، وهما الاتنين ماشيين عكس.
.
لما دكتورة في الجامعة شيّرت ستيتس لطيفة كده مكتوب فيها "بطلوا تحرش ببنات مصر وح تلاقيهم أحلى من المشجعات الأوروبيات"دخل لها طالب تقريبًا وقال كلام في قمة التناقض: "مشجعات أوروبا منورات في الضلمة لكن طبعًا الجمال جمال الروح،"و"بنات مصر غلطانين لما يتصرفوا زي الأجانب ويلبسوا زيهم وده اللي بيجيب لهم التحرش""واللي بيحصل في العيد ده ما يصحش"مع الكثير جدًا من الغلاطات الإملاءية. لما كتبت له حضرتك بتناقض نفسك قال لي أصل أنا دراستي إنجلش وما بفهمش في النظريات الفلسفية. طبعًا يكفي هذا المقدار من الحكاية لأن الضغط لما بيعلى جدًا بيعمل حاجات وحشة في النافوخ.
.
(4)
هل فيه أرضية مشتركة ما بين كيف تدور الأشياء في عقولنا جميعًا؟
آه يا أفندم، اسمها قوانين ودساتير وتشريعات.
بلاد العالم الأول اللي مبقاش أول كده لوحده، بعد العصور المظلمة اللي اتسمت بالقذارة -المناقضة للنظافة يعني- والوحشية والقتل، وتجارة العبيد ثم تجريم تجارة العبيد ثم حروب أهلية وثورات صناعية وفقر فاحش إلى جانب الغنى الأكثر فحشًا، ومستعمرات وإبادات جماعية ثم المزيد من الإبادات الجماعية وقتل السكّان الأصليين باسم الرب مرة وباسم المدنية والحضارة مرة وباسم الجشع دائمًا وأبدًا، وصل وما يزال يسعى لقوانين تحفظ حقوق البني آدمين.
.
من أول القوانين الكبيرة، زي تجريم تجارة العبيد، بشكلها الجديد اللي بقا اسمها "الرقيق الأبيض"ومنهم مثلًا عمالة الخدمة المنزلية اللي ملهمش حقوق وغالبًا بيُستغلوا جنسيًا ثم يموتوا من الأمراض أو العار -فيه منهم في مصر، اقروا تحقيق الصحفية بسمة مصطفى هنا https://goo.gl/jE3jHf - لغاية الأشياء التي تبدو صغيرة وتافهة زي منع الباعة الجائلين من استخدام الميكروفونات للإعلان عن بضاعتهم، وتحديد مستوى الضجة الملائم وأكتر من كده ح يتعاقب إلخ.
.
الإحباط سهل والركون للخراء المطلق سهل برضه، وما دام مش في إيدنا نغير القوانين ولا مجلس الشعب ولا حتى كرسي أتوبيس، يبقى نتعب نفسنا ليه؟
لكن في إيدك والله ما تتريقش على البنات في مصر مهما كان لبسهم مش عاجب سيادتك لأنك مش كريستيان ديور يعني وحتى الحاج ديور ملوش الحق يتريق على غيره، في إيدك تبطل تعليقاتك وتصرفاتك الغبية اللي بتجرح الآخرين، لحد ما نطلع قوانين نحاسب المسيئ بيها صح، مش نترك الشريف إذا سرق لكن نقيم الحدّ على الضعيف.
.
(5)
بما إن كفاية كده:
الخلاصة والله إن كلنا كبني آدمين يعني بنشوف الحاجات بمنظور مختلف تمامًا عن الآخرين، ومش معنى كده إن فيه حد صح والتاني غلط إلا لما اللي بنشوف ده بيضرّ بنفسنا أو الآخرين ولو حتى على المستوى المعنوي، خصوصًا على المستوى المعنوي.

لما كنت باقول لحد من قرايبي جملة "هكذا تدور الأشياء في عقلي"كانوا بيتساءلوا بدهشة "يعني إنتي مجنونة؟"لأن في قاموسهم "تفكيري مختلف"معناه مباشرة إني فقدت عقلي.
المسألة إنهم كجزء مصغّر من الشعب المصري رافضين الاختلاف، رغم إن التفكير ده اللي هو ملوش ملامح محددة رامينا في عمق الحفرة تتساقط علينا زبالة الشعوب، لكن الاختلاف عن التفكير ده برضه جريمة يستحق عليها المختلف عقابًا رادعًا.
.
لذلك، يرحمكم الله، التحلّي بفضيلة الشكّ شيء في منتهى العظمة "هل رأيي هو الصح الأوحد وما عداه باطل فعلًا؟""هل أنا على صواب لما أحرم طفلي من اللعب تحت؟""هل سخريتي من الآخرين صح أم ده بيجرحهم؟"كده على طول، مدعوم بكثير من القراءة والبحث، يرحمكم الله وياخدنا.
.
28-6-2018

Exceptionally intelligent

$
0
0
من أكتر الإهانات اللي عمري ما أتقبلها هي "إنتي غبية."
في العام الماضي، وبسبب ظروف كتيرة لا داعي لشرحها، ضغطت عليّ أمي للتوجه لطبيب نفسي كبير ومشهور جدًا، مستشفاه في التجمع الخامس، لأنها "مش مقتنعة"بالطبيب اللي باروح له وما زلت مستمرة معاه. الدكتور المشهور جدًا ده واللي إداني أقل من 5 دقايق والله من وقته، قرر ببرود إني محتاجة اختبارات كده وأشوفه بعدها بشهر. ما أثار ذهولي إنه كان ممكن يطلب الاختبارات قبلها ونروح له مرة واحدة وننجز بما إنه مش فاضي كده! بس هو حبّ المشوْرة -من ضرب مشاوير ع الفاضي، زي مدام عفاف اللي في السابع- أصيل في البني آدمين تقريبًا.
الاختبارات دي تنقسم لاتنين: شخصية وذكاء.
.
لما طلع التقرير بعد كده، واللي كان بالإنجليزية، كان مكتوب تحت قسم اختبارات الذكاء: "Exceptionally intelligent"أو "ذكية بشكل استثنائي."
.
المعالج اللي كان بيعمل لي الاختبار، وكان متنرفز جدًا لأننا اتأخرنا عليه ساعة كاملة -أمي تقريبًا معندهاش إدراك بالوقت- كان صموت ومتجهم وبيبص لي بقرف بين وقت والتاني، وده خلاني متحفزة له أكتر. فيه جزء في الاختبار عبارة عن مجسمّات هندسية: مثلث ومستطيل ودواير إلخ، مطلوب مني إني أكوّن بيها الشكل المرسوم في الورقة قدامي.
في البداية كانت الأشكال سهلة، زي مثلث مثلًا، وبعد كده أشكال زخرفية بتفكّرني بالعمارة الإسلامية، تدرجت في الصعوبة لحد آخر واحد وأصعب واحد، واللي كان الوقت المتاح ليه، كما هو متوقع، أقل من البقية.
إداني الورقة وطلّع الـstop watch وظبطها وقال لي ابدئي. بدأت فعلًا وهو عمّال يقول "باقي عشر ثواني"وأتوتر، "باقي خمس ثواني"وأنا ركبت في دماغي وربنا لا أكملها للآخر. الوقت خلص وخلاص ح يشيل الورقة ويجمع المجسّمات، وأنا صممت أكملها وإلا ح آجي أحفر الزخارف دي على جسمك.
كملت الرسم الزخرفي وطابقته مع الصورة، وبصيت له عشان أشوف "عجبه ولا لأ". تنّح شوية وتوقف عن الحركة لثانية تقريبًا، وبعد كده جمع الأشكال الهندسية والورق وانتقلنا لجزء تاني من الاختبارات، في صمت تام.

في وسط الجزء التالي من الاختبار واللي كان أسئلة ردودها كلامية، توقف عن الكلام لحظات وقال "الشكل اللي عملتيه ده مش ناس كتير بتعرف تكمّله للآخر، كان صعب فعلًا، برافو."وانتقل فورًا ليكمل الاختبار من غير ما يسيب لي لحظة للتعليق أو حتى أندهش من اللي قاله.
.
التقرير كاتب إني ذكية بشكل استثنائي مش عشان كوّنت شكل زخرفي فا المفروض أقدّم بقا في كلية الهندسة، الاختبارات كان فيها أسئلة كتير منها عمليات حسابية مثلًا كنت باتلخبط فيها، لكن أسئلة تانية منطقية وفلسفية كان بعضها ح يشلّني لأنها تتطلب تركيز عالي في وقت ضيق جدًا، وغيرها كتير.
أنا مش باتنطط بالتقرير ولا الاختبار ده ولا كلامي ده على الخلق عشان أقول لهم أنا أذكى منكم يا بهايم اسمعوا اللي باقوله من غير مناقشة، أنا مش أهالينا اللي بيعايرونا لحد دلوقتي إنهم جابوا 99% في الثانوية على لمبة جاز -ويطلعوا في الآخر 79% بس معلش الغاية تبرر الوسيلة- وبالتالي نحطّ جزمة في بقنا ونسمع منهم لأنهم يعرفوا عننا.
أنا مش عايزة من حد حاجة غير إني أتساب في حالي ومحدش يتهمني بالغباء، من أول بنات المدرسة الإعدادي والثانوي اللي كانت دي تهمتهم الدائمة ليا لأني كنت "باسأل كتير"وباطوّل في زمن الشرح وبالتالي الواجبات، مرورًا بنفس أهلي بنفس الـ99% بتاعتهم، انتهاءً بنفسي اللي لما أفقد تركيزي شوية باتهمني بالغباء وبعد كده أرجع آخد بالي وأعتذر لي.
.
أنا محظوظة جدًا والله بالناس الحلوة اللي في حياتي، اللي يا إما بتدعمني دايمًا أو بتمدح في قدراتي العقلية، خصوصًا الناس اللي اشتغلت معاهم في آخر 4 سنين من عمري، وبالطبيب النفسي الحلو بتاعي، اللي بيمدح في طريقة تفكيري أو بيشتمني لما يلاقيني باقول حاجات مش منطقية، أو الصحاب الاستثنائية الجمال اللي لما بتغلط وتقول تعليق مفاده إني غبية وتلاقيني اتضايقت بتعتذر جدًا لأنهم باقيين على الصحوبية دي.
ومحظوظة أكتر إن في سكتّي يا سبحان الله ناس في منتهى الجمال، كُتّاب وصانعي أفلام وأغاني وأحيانًا لوحات -رغم إني مقلّة في الاهتمام بيها- اللي بيحترموا عقلي جدًا وبيقدموا أشياء في غاية الجمال تحتاج لإعمال العقل لفهمها وتحليلها وبالتالي الانبساط بيها، من أول د. أحمد خالد توفيق مرورًا بالكتّاب والمدونين من جيلي وصولًا حتى لابن أخويا، مهند ذي 7 سنوات، اللي بيسأل أسئلة حلوة بترغمني إني أدوّر على الإنترنت على إجاباتها وإزاي أصيغ الإجابة دي لطفل في سنّه، وبيفكّرني دايمًا إني لا أعرف كل شيء ومفيش أي مبرر للتنطيط على حد حتى عليه، حتى لو عندي مقدرات عقلية كبيرة أو كنت Exceptionally intelligent. :)
28-6-20108

حنين

$
0
0
أحاول العمل أو قراءة المقال المفروضة عليّ ترجمته وتنسيقه قبل غدٍ، لكن "وكنا أربعة: أنا وأنتِ، وأنا وأنتِ"بصوت فؤاد حدّاد، تقول لي أن أتريّث قليلًا.

تأخذني القصيدة للعام 2006. تالتة كلية والعمر أمامي ممدود ومزهر ووردي وجميل، المستقبل مشرق، أجرّب الكتابة فأجدها ممتعة وأحبها، أجرّب القراءة لكتّاب لم أعتدهم من قبل، فأحبهم جدًا وأجد الموضوع مشوّقًا فأستمر فيه لآخره. أسمع عن "فؤاد حدّاد"ولا أعرفه، لكن أسمع القصيدة وأقرأها لدى هاجر "إيبيتاف" -ما زال اسمها على هاتفي المحمول باسم مدونتها- فأحبها جدًا وأقرر الاحتفاظ بها لديّ.

العام 2006 والعمر ممتد. أحب "يوليوس قيصر"في الكلية وأقرر أن شيكسبير كاتبي المفضّل، أجتهد في فهم الفلسفة فأفشل تمامًا فأتخذ قرارًا قاطعًا بأنها مادة سخيفة ولا ضرورة لها في الحياة. أركب باص عم سيّد وأحاول فهمه فلا أستطيع، تقول لي نيفين نظريات ولا أجدها منطبقة على الواقع فأصرف الموضوع كله من رأسي. زميلة لي في القسم، اسمها ريهام شيء ما، يضغط أهلها عليها بشدة للزواج من رجل لا تعرفه ولا تحبه ولا تطيقه، تبكي لنا بين المحاضرات فينصحها أصدقائي بالتجلّد، وأقول لها مذهولة إن عليها الرفض، فتبتسم من وسط دموعها مشفقة على جهلي، وتردّ بأنها لا تستطيع. يسقط هذا المشهد من ذهني تمامًا، وتدعونا لحضور زفافها فأرفض بينما يحضر البقية.

نجلس أنا وصديقاتي في الصف الأول من المدرجات، دائمًا الصف الأول في تنافسية طفولية مقيتة وغِلسة تمامًا. يكرهنا بقية الفصل والدفعة كلها، فلا نكترث. تلحّ عليّ صديقتي سارة بأن أقرأ هاري بوتر فأبدي لها اشمئزازًا لأني "ما بقراش حاجات عيال"، عندي 19 سنة بحالها فكيف أقرأ عن سحرة صغار؟

أفتتن بمدّرس لدينا في القسم، يتحدث عن الثقافة والقراءة، عكس كل الكتيبة والحفيظة الذي يدرسون لنا، فأحضر له عددًا من مجلة "العربي"الكويتية التي كنت أقرؤها بانتظام ونهم وقتها، كي يشرح لي مقالًا عن "جيمس جويس". عندما رآها صاح "وكمان ح أشرح جيمس جويس؟ لأاا!"فتساءلت في سرّي "ومتشرحش ليه يا أخويا؟"وبدأ الافتتان في التخافت. فيما بعد تذكرت أن المقالة كانت عن رواية "عوليس"، وأكثر الظن أنه لم يفهمها، ولن أجد من يفعل لا في مصر ولا في إنجلترا ولا آيرلندا نفسها.

أحصل على نسختي المصوّرة من كتاب "تاريخ اللغة الإنجليزية"، فأبدأ في تلوين الخرائط بداخله لأنه كله أبيض وأسود ومصوّر ونسخته سيئة وطباعته مقرفة. ألوّن كل الخرائط وأحدد عليها تقدم الجرمان ثم النورمانديين إلخ، وأضع خرائط زمنية في آخره تساعدني على الحفظ. أتذكر الآن أن هذا كان في السنة الرابعة، بدأت وحدتي في الإعلان عن نفسها، صرت أكثر انعزالًا وكآبة، لا تبدي صديقاتي أي اهتمام بمحاضرات تاريخ اللغة بينما ألتهمها التهامًا، وأصابعي تكتب أو تدوّر البلية الزجاجية الخضراء بينها، كنوع من رفض التخلّي عن الطفولة تمامًا. في محاضرة أخرى، جلست أنا ونيفين إلى جوار بعضنا، وهي من فصل مختلف عني لاختلاف الحرف الأول من اسمها، وقد خططنا كثيرًا كي نحضر معًا آخر محاضرة في رواية "طاحونة على نهر فلوس"لجورج إليوت، التي قرأنا فصلها الأخير معًا وبكينا، وعندما شرحت الدكتورة باقي الرواية وسردت أحداثها لمن لم يقرؤوها بكينا مجددًا. أذكر أنها لمحتنا: إلى جوار بعضنا ونحيلتين جدًا في ملابس باهتة، نحاول كتم دموعنا ومسحها بسرعة قبل أن تغرق وجهينا، فابتسمت وقالت بالإنجليزية "يبدو أن هناك من يتمتع بالإحساس، في هذا الفصل!"وأكملت بسرعة. رهاني الذي أكسبه حتى الآن أن أحدًا لم يفهم ما قالته.

في أعوام لاحقة سأتعرّف على شِعر أمين حدّاد، وسيظل حتى الآن شِعر والده ملغزًا إلى حدٍ كبير بالنسبة لي. سأحب شِعر ابنه، أحمد، وأحضر حفلات قليلة لفرقتي "إسكندريلا"و"الشارع"قبل أن تأتي 2013 وتكتسح كل شيء وأي شيء عداها وسواها وضدها ومعها. سأحفظ "حيّوا أهل الشام يا أهل الله"وستظل "لم أزل منصور ولم أُهزم"شعاري في أوقات مظلمة ومضيئة، على حدٍ سواء. سأرى بهاء جاهين في أمسية شديدة اللطف للحديث عن فؤاد، وسأعرّفه بنفسي وألتقط صورة معه، مبتهجة جدًا بها. سألتقط صورًا كثيرة مع أمين، وأشتري كل ألبوماته الصادرة مع الشروق وميريت، مع أنني لا أستطيع العودة للانتظام في القراءة.

سأتوقف عن شراء أعداد العربي الكويتية، وسألتهم مجلات ميكي بحرارة غير مسبوقة، وسأقرأ كل روايات هاري بوتر بالعربية ثم أسمعها بالإنجليزية وأدخل أفلامه الجديدة في السينما، وأنتظر "جرائم جريندوالد"في نوفمبر 2018. سيتبخر تمامًا افتتاني بدكتور الكلية المتبختر وأراه على حقيقته: مغرور وغبي وعاجز عن التعاطف. سأنسى تمامًا ريهام وحكايتها، بعدما فشلت في استكمال سنة رابعة في الكلية. سأشعر بتأنيب ضمير قوي لأنني لا أتواصل كما يجب مع سارة، مع أنها تعرف أنني صرت مفتونة بقصة الولد الذي نجا، لكن طفليها وزواجها التعس لا يتركان لها مساحة للخيال.

بالنسبة للآن، فإني أتذكر تالتة كلية بحنين لطيف جدًا، يدفع ابتسامة جميلة لقلبي. ما زالت حكاية الكتابة تعجبني، وأريد استكمالها. لم أزل منصور، ولم أُهزم.
.
روز
مدينة نصر، في 3-8-2018

فصل عن افتقاد البهجة

$
0
0
بشكلٍ عاطفي جدًا وغير منطقي ويجلب الإحساس بالتعاسة، لاقية نفسي مفتقدة "منتدى روايات"جدًا من يمكن أسبوعين أو أكتر. اللي مكانش في المنتدى مش ح يعرف أنا باتكلم عن إيه، واللي كان فيه ح يوافق بحماسة، غالبًا.

المنتدى كان عامل زي القهوة اللي بنقعد عليها كلنا: اهتمامات متشابهة جدًا وآراء متشابهة برضه، بنتكلم في كل حاجة بتعجبنا، واهتماماتنا متنوعة جدًا لكن بنحترم اختلافات بعض. "الاهتمامات المتنوعة"دي بتفكرني بظاهرة سخيفة لاحظتها وقت ما كنت باتابع أزمة الأطفال التايلانديين، لما كنت باجيب بي بي سي عربي كانت موضوعاتها بالنسبة لي سخيفة ومملة ومكررة وألوانها كابية وصوتهم عالي وبيضايق جدًا، بينما موضوعات بي بي سي وورلد كانت متنوعة وفيها ألوان كتير، حتى المذيعين كانت انفعالاتهم باينة على وشهم، رغم إن الأخبار خرا في كلا القناتين حتى مع اختلاف مناطق العالم اللي بيتكلموا عنها. مش باجيب أي قنوات أخبار تانية لأني مش مهتمة والله بتكرار نفس الحقيقة: العالم رايح في ستين داهية والقيامة بكرة العصر، و"الطفل الذي يضحك لم يسمع بعد بالنبأ الرهيب"على رأي الحاج بريخت، لكن حتى على قدر نشرة رأس الساعة اللي مش بتستمر أكتر من 5 دقايق، فيه تنوع رهيب في الاهتمامات والأخبار، فيه ألوان وفيه بصيص من حياة.

أهو الفرق بين الفيس بوك ومنتدى روايات مشابه تمامًا لبي بي سي عربي وأختها الأجنبية. الفيس بوك تفتحه تلاقي صفحته الرئيسية نكد وغم وقرف وأحوال خرا متعرفلهاش راس من رجلين ولا ح تخلص إمتى، بينما منتدى روايات -رغم قلة حديثه في السياسة، النقطة التي قد تخلّ بالمقارنة- متنوع وملوّن جدًا. يعني لو أخدنا 10 بوستات ما بين كلام وصور وأغاني ولينكات لمقالات أو حاجات من برة الفيس بوك، وحسبناها، ح نلاقي حوالي 7 بتتعلق بالسياسة ما بين جادّ أو تحليلي أو هزلي أو صادم أو سخرية أو ميمز، و1 أم بتشتكي من حالها وعيالها وإنها مش عارفة تخش الحمام ولا تشرب كوباية الشاي وهيا سخنة، و1 تريقة على أييييييييييي حاجة متعلقة بالستات، و1 أي شيء متعلق باهتمامات الحياة لا مؤاخذة زي الأفلام أو الكتب أو أي حاجة "حلوة"تفتح النِفس -ربنا يجعل كلامنا خفيف ع الحكومة- على الحياة.

عكس كده تمامًا على روايات. في صفحته الرئيسية، أيام عزّه لما كان لسه بشبابه وعنده صفحة رئيسية، كان بيتعرض آخر 10 ردود اتكتبت في آخر 24 ساعة. تدخل تلاقي يا إما مناقشات عن الأعداد الجديدة أو الأفلام أو السينما أو الموضوعات الثقافية والحياتية اللي كانت بتتعرض لها الأعداد الجديدة والقديمة والكتب اللي كان بيستعين بيها د. أحمد كمصادر وقراها بعضنا وقرر مناقشتها معانا. كنت تلاقي موضوعات عن لوحات رينوار ومزيكا مارسيل خليفة وشِعر أحمد مطر ومحمود درويش، وموضوعات تبدو ساذجة الآن زي "ح تسمح لأختك تقرا لصنع الله إبراهيم؟"عشان كنا صغيرين وقتها أكبرنا محصلش 25 سنة أساسًا، وكان فيه د. أحمد فكنا محترمين نفسنا في حضرته، ده غير إن أغلبنا أساسًا لحد دلوقتي ما بيفضلش نوعية الأدب الصادم حتى لو كان فيه كمية معلومات رهيبة عن الفساد وأوضاع البلاد إلخ.

حتى جوة الموضوعات اللي ح تجلب السخرية والتريقة والسفّ علينا وعلى جيلنا ومنتدانا، دلوقتي، كنت بتلاقي مناقشة أغلب الوقت هادية ومتحضرة جدًا، محدش بيشتم حد والناس بتعرض رأيها برقيّ كبير فعلًا يعني. جرّب تحط بوست ع الفيس بوك عن أي شيء وتعمله بابلك وتفتح التعليقات للغُرب؟ يالاهوييييييييييي على القيح والصديد اللي ح يتفتح في وشك!

كل ما أفتح الفيس بوك ألاقي صراخ وشتيمة وضرب وتهزيق وبوست واحد عِدل وعشرات الشكاوي من العيال وخلفتهم ومصاريفهم والسخرية المتوارية من "المتحكمين في مجريات الأمور"ومئات الإشارات الجنسية بشكل يثير التقزز فعلًا.. ح تلاقي 20 بوست ورا بعض فيها مئات المعلومات والأشياء والأشخاص والأخبار الشخصية والعامة والأخبار الكاذبة والميمز وعادل إمام، عادل إمام إيفري وير، بطريقة تحيّد كل المشاعر. لو حد صاحبك والده اتوفى وعرفت عن طريق الفيس بوك آخرك ح تبعت له "البقاء لله"وتكمل تقليب، وتحاول تحضر العزا بس ظروف الشغل والعيال والجواز والمواصلات والقاهرة الله يحرقها أكتر ما هي محروقة بتمنعك، فا بتكمل تقليب. مش عشان معندكش مشاعر بس دي برمجة الفيس بوك، أيوة، بيبرمج اللي يقعد عليه -فيه مقالات كتير في هذا الشأن يرجى البحث عنها-

أنا مفتقدة جدًا المنتدى، عارفة إن لا يمكن الرجوع إليه ولا إعادة تشغيله لأنها ح تبقى مدعكة وحرب حقيقية تخرّب آخر شيء جميل حصل على أرض الواقع ده. أنا بس مفتقدة ألوانه وروقان البال ومزيكته ومحاولات شرح "العَروض"والاحترام اللي كنا بنكلم بيه بعضنا والتواضع في الحصول على المعلومات من اللي يعرف فينا أكتر.

أيوة أنا عاطفية ولا منطقية وباهري تمامًا، ومفتقدة لوحات رينوار وفيروز وأعداد سافاري الجديدة والألوان والبهجة، جدًا.
.
4-8-2018

I don't know how to be here..

$
0
0
لا أعرف كيف أفعلها. لا أعرف كيف أكون هنا.

ترددت هذه الكلمات في ذهني كثيرًا جدًا، طيلة الفترة الماضية. كتبتها داخلي بألف صيغة، شرحت كثيرًا، ثم لم أضعها في أي مكان، لا على الإنترنت ولا على الورق.
أطول نوبة اكتئابية مرّت بي منذ نحو السنة.. فجأة أتذكر ما كان حالي عليه في أغسطس الماضي وتظلم الدنيا حولي وبداخلي، تظلم أكثر وأكثر، تصبح أكثر قتامة.
4 أسابيع لم أنهض من الفراش. 4 أسابيع لم أجلس فيها للمكتب سوى مرتين فقط، إحداهما أمس، والأخرى أرسلت لصديقي فيها رسالة صوتية باكية جدًا فكرهت نفسي أكثر وخفت، انعزلت.
مع تلك الرسالة بدأ شيء في التشقق بداخلي. صوت انهيارات وتكسّر يتصاعد بقوة ولا يتوقف، لا أستطيع إيقافه. ما زال يتصاعد، ما زال كل ما بداخلي يتشقق وينهار ويتصدع، وهذا يصيبني بخوف هائل، خوف عظيم يقعدني حرفيًا عن الحركة.

جلست أول أمس مع صديق آخر، عزيز جدًا عليّ، بكيت. شرحت له بقدر استطاعتي، تهرب مني الكلمات، يهرب مني كل شيء، أبدأ جملة فلا أستطيع إكمالها، أشرح له موقفًا فلا أذكر ماذا أردت من عرضه عليه.

أدرك الآن أنني شرحت له "أغسطس الماضي"لأنني أردت إخباره بأن هذا الأغسطس، سيئ جدًا، سيئ لدرجة غير مسبوقة.
هل نقطع المسافات والأزمنة لنعود لنفس نقطة البداية؟

أركب السيارة، لا أذكر لأين كنت متجهة، فخروجي قليل جدًا تلك الفترة، أتطلع من النافذة وأقول "رجعت لمربع الصفر"فيردّ صوت بداخلي "لو وصلنا للصفر فهذا فضل ونعمة، نحن في السالب، أسفل الصفر بكثير"أدرك أن الصوت على حق فيبكي قلبي وعيني جافتين.

صار لي شهر أحاول وضع الكلمات بجوار بعضها، أحادث أحدًا أو أهاتفه أو أكتب إليه أو حتى أسجّل له، أطلب المساعدة، فلا أستطيع.
منبطحة على ظهري الذي عاد لإيلامي بقوة ساحقة، أشاهد أفلامًا وأعيد مسلسلًا قديمًا أليفًا، لا أعرف ما الذي أشاهده ولا أريد، فقط هو شيء يشفط تركيزي فلا أفكر في كل سوء الحظ الذي يلازمني.

أشعر بأنني انهزمت بشدة.

في بيت أمي منذ ما يقرب من الشهرين، كنت أحارب كل تلك المدة، أقاوم للحفاظ على ما تبقى من جمال وقوة بداخلي، حصلت عليهما من معيشتي وحدي في بيتي. حاولت كثيرًا، ثم على ما يبدو، انهزمت.

طريحة الفراش بلا مرض ظاهري، أصبت بالتهاب في الشعب الهوائية شفي بعدها مباشرة، بعد علبتين مضاد حيوي والكثير جدًا من السعال والبصق ومحاولة الحفاظ على درجة الحرارة في معدلات جيدة. فجأة أصاب بحمّى: ترتفع جدًا فأهلوس وأعرق وأرتجف، تنخفض بعدها مباشرة فأرتجف وأهلوس ويرتجّ جسمي بقوة. أكثر ما آلمني فيها هلاوسي: كنت أبكي وأنا نائمة.

تنتهي الحمى وعلب المضادات الحيوية ولا تتركني الكوابيس التي أبكي فيها، وأستيقظ على صوت نحيبي، وأختي في السرير المقابل لا تسأل ولا تحاول أن تطيب خاطري، ولا أريدها.
أكثر ما يؤلمني في هذا المنزل، أنني محاطة بالكثير من البني آدمين، لا أستطيع الاعتماد على أيهم، ولا حتى الدخول في علاقة صحية قوية مع أيهم. طب أنا موجودة وسطيكم ليه؟
يوم الخميس الماضي حاولت البكاء فلم أستطع، تراكمت المشاعر السلبية بداخلي وتعاظمت لحجم ينذر بكارثة، فأرسلت لاثنين من أصدقائي: لا أعرف ماذا أفعل ولا كيف أكون، ساعدوني. أحدهم أرسل لي أن أقابله في اليوم التالي لأنه يصادف إجازته.

ذهبت لمقابلته، شادي، حاولت نظم الكلمات لتصبح جملًا مفهومة: صرت أرى نفسي بأعينهم، صرت أراني بدينة ومقززة وقبيحة ووجهي مليئ بالحبوب -غير الموجودة فعلًا- وشعري قبيح، صرت أراني فاشلة ومنحطة ونصف إنسان ما دمت لم أتزوج بعد. صرت أراني فاشلة جدًا، جدًا.

عندما أفقت أمس، قليلًا، من غمامة الاكتئاب، أدركت أنني فقدت وزنًا كثيرًا، ولست بدينة وقبيحة ومقززة، ووجهي خالٍ من الحبوب فعلًا، واستعملت زيتًا جديدًا لشعري كنت قد اشتريته منذ مدة طويلة وأهملته. شعرت بأنني جميلة.

قلت لشادي إنني كدت أرسل لصديقنا الثالث، تامر، أسأله "هل تراني فاشلة؟ هل تشعر بأنني يمكنني أن أصنع أشياء جميلة؟ هل تشعر بأنني "بني آدمة"وليها لازمة؟"لكنني تراجعت لشعوري بأن السؤال مثير للشفقة جدًا، وأنا أكره أن أكون مثيرة للشفقة. انفعل شادي وحاول تحجيم غضبه وقال "آه تقدري.. عندك مهارات كويسة جدًا وباحسدك عليها من زمان من أول ما عرفتك من روايات، بغض النظر عن الظروف السيئة المحيطة بيكي، عندك مهارات قوية Core talents بتخليكي تقدري رغم كل ده تنتجي وتبدعي وتحاولي وتنجحي."
"إنتي حصلت لك صدف كتيرة كان ممكن تحصل لأي حد وما يستفيدش منها. مش أي حد يتحط قدامه كتاب يقراه ويكمل قراية ويجيب كتب تانية ويحاول ويستفيد، مش أي حد بيعرف يكتب. إنتي قدرتي تستفيدي من ده وتطوريه، وح تقدري."

شعرت بامتنان كبير نحوه. أذكر أنني، بعد العيد الصغير مباشرة، كنت أحادث تامر فقال في معرض الكلام "بتكتبي حلو"فانشرح قلبي جدًا لدرجة أنني لم أنتبه لبقية كلامه. بعد نشري مقالي الأخير قبل هذه النوبة مباشرة، أرسلت لي اثنتان من صديقاتي يثنين على طريقتي في الكتابة واختيار الموضوع، ابتهجت فعلًا.

الآن أشعر بأن كل هذا وهم. كله لم يحدث فعلًا، أو لا سبيل لتجديده.
.
في فيلم Eat Pray Love يستيقظ صديق جوليا روبرتس، الأصغر سنًا منها بكثير، ليجدها نائمة على وجهها على الأرض تبكي. يسألها عما بها فتقول 
- I don't know how to be here
فيردّ عليها بنفاد صبر وغباء وقرف:
- So don't.
تحزم حاجياتها وتمضي في رحلة حول العالم. لا تنظر للوراء ولا تعود إليه رغم إلحاحه عليها.
.
أجيد التصوير، صوري حلوة فعلًا، أستطيع الترجمة بدرجة من الجودة، كتابتي جميلة، أتحدث الإنجليزية بدرجة عالية من الطلاقة، أجيد التحكم في مشاعري بحيث لا أضايق نفسي ولا المحيطين بي لو يهمني أمرهم. تنسيقي للألوان هائل، أهتم بالأقراط الملونة الجميلة وأحاول ضبط شعري بقدر ما تسمح لي به الماديات المحدودة، أصنع كيكة بالشوكولاتة عظيمة، ويمكنني دائمًا الاعتماد على القهوة جيدة التحميص والتحويج لضبط ضغط دمي.

لكنني لا أرى كل هذا، ولا أستطيع الخروج من الغمامة بعد، ولا أعرف ماذا أفعل.
لا أعرف حتى لماذا أكتب هذا الكلام أو أنشره أو حتى أضعه على الفيس بوك.
أعرف ما أريد وأراه لكنني لن أصير، الآن، ما أريد.

الشوفان يداوي الحزن

$
0
0
يقول المدقق اللغوي في رأسي: الصواب أن نبدأ بفعل، فيصبح العنوان "يداوي الشوفان الحزن"، فأرد عليه بأن هذا عنوان، وفي العناوين مسموح بكل شيء. أحاول تجاهله وأكمل تقليب الشوكولاتة.
منذ اكتشفت قوالب الشوكولاتة الخام في السوبر ماركت، وأنا أذيبها لأصنع شوكولاتة ساخنة، واستغنيت عن الكاكاو البودرة بكل أشكاله وأنواعه حتى الغالي منها. أين كانت تلك القوالب؟ في ممر صناعة الحلويات طبعًا، إلى جوار الدقيق والفانيليا وماء الزهر المستخدم في الطبخ. كيف لم أرها من قبل؟ لأني، ببساطة، لم أصنع حلوى من قبل، فلما انتقلت لبيتي الجديد دخلت لكل ممرات السوبرماركت، ورحت أغرف منها بشهوة حياة جديدة منفتحة على الاحتمالات، كل الاحتمالات.

أكتب الآن "بيتي الجديد"وتعيقني غصة حقيقية عن الاستكمال. أقول لنفسي إنني أبحث عن كلمة أكثر دقة، لأريح الأستاذ "عبمجيد الصحاح"بداخلي. لكن الواقع أنني لا أستطيع قولها، لا أستطيع كتابتها والأسوأ لا أستطيع التفكير فيها، فيه، في بيتي الذي لم يعد بيتي.

صار لي ما يقرب من الأشهر الثلاثة في بيت أمي، آخر شهر فيها قضيته مسطحة تمامًا على الفراش، لا أغادره إلا للحمّام، توقفت عن الأكل وفقدت وزنًا بالفعل، توقفت عن الاستحمام حتى صارت رائحتي شنيعة، لم أعد أمشط شعري، طالت أظافري حتى هددت بالانكسار. تسطحت على ظهري فعلًا، أشاهد أشياء لا أذكرها الآن، عقلي خالٍ تمامًا جدًا، لا أدري أي وقت نحن بالليل أم بالنهار، ولماذا يجب أن أنام، ومتى يغادرني الأرق.

لكن، أسوأ ما أصابني، كان الصمت.

فقدت القدرة على نظم الكلمات إلى جوار بعضها لتشكل جملة. يبدو هذا غير معقول: كيف يفقد شخص قدرته على الكلام؟ لكن هذا ما حدث ولا أملك تفسيره ولا البحث وراء التفسير. الكلمات لا تأتي لعقلي لتشكّل جملة منطوقة أو مكتوبة، ولم أستطع استدعاءها. أفكّر في أنني أريد كوبًا من الشاي مثلًا، لا أستطيع قولها، أفكّر في الكلمات التي يمكنني وضعها إلى جوار بعضها لتعبّر عن الشاي، أنتبه فجأة إلى أنني استغرقت 20 دقيقة في هذا الأمر، فأتجاوزه كلية وأعلن بداخلي أن الشاي غير ضروري، واستلقي لمشاهدة المزيد من الأشياء التي لا أذكرها مطلقًا، الآن.

كشخص شغلانته الكتابة، يبدو هذا الأمر كارثيًا: كيف لا أستطيع الكلام ولا الكتابة؟ نما صوت بداخلي، خفيف جدًا وغير محسوس، يقول "اطلبي المساعدة."لم أستطع الاستجابة له. كيف أطلب المساعدة؟ هل أتصل بشخص وأقول له "ساعدني"؟ هل أكتب لأصدقائي على الماسنجر كما اعتدت مؤخرًا، لأقول "أرقد على ظهري لا أفعل أي شيء، ساعدوني"؟ لم أعرف كيف "أنفّذ"هذا الطلب، فسقط من مقدمة عقلي، وعدت للمزيد من التتنيح والتوهة في اللاشيء تمامًا.

تبدو الفترة التي قضيتها في منزلي، ستة أشهر كاملة، خيال لم يحدث.

أقف على البوتاجاز الكبير في مطبخ أمي الحار، أضع الكنكة على العين الوحيدة التي أستخدمها وآلفها من بين 5، أضيف اللبن لكريمة الطهي ومكعب الشوكولاتة الخام، وأحاول التقليب كي أحصل على كوب منها. أشعر بتعاسة بالغة وبالخواء. أدفع نفسي دفعًا للتفكير في الأسباب، أحاول نظمها في كلمات، أقرر كتابتها علّني أهرب من الموت بداخلي.

الشوكولاتة الذائبة لا تملك نفس الطعم كما كانت في بيتي. في منزلي، صنعتها مرة ووضعتها في كوب زجاجي مخصص للعصير، بدلًا من الأقداح الفخارية، كنوع من التمرد. صنعتها وشاهدت فيلم "شوكولا"لجولييت بينوش الجميلة، وانبسطت بكل رشفة منها، بكل دفقة سعادة تصنعها في خلاياي: تدخل ببطء وتوقظها وتنعشها ثم تغادرها لأخرى وأخرى وهكذا. دخلت الشوكولاتة فصنعت حبًا بداخلي وغلّفتني تمامًا فأصبحت دافئة، وكنا في بقايا الشتاء ساعتها ولم أستطع التخلّي بعد عن الجوارب الثقيلة حتى في المنزل. كان منزلي بسيطًا جدًا، بلا دواليب مطبخ أو سفرة للأكل عليها أو تلفزيون أو حتى مروحة في غرفة النوم، بلا ثريات مذهبة مليئة بالكريستالات أو حتى الزجاج الملوّن المعشق، بلا صالون عملاق لونه بيج في بني ومذهب من كل ناحية ومتعب جدًا لدى الجلوس عليه، بلا عظمة زائفة ولا افتعال الأهمية أو الفخامة. كان بيتي، وكان مريحًا لي.

لا يبدو الآن أني أذكر أيًا من هذا.

لا يأتي بيتي ولا اللحظات التي قضيتها فيه ولا الضحكات أو الأطلس الذي رممته وجلّدته فيه، ولا شعري الذي أصلحته لي إيمان وقت أن جاءت لزيارتي، ولا صور كل الأعزاء المعلقة على حوائطه، ولا روائح الأكل الشهية، ولا استلقاء محمود على المرتبة الإضافية في غرفة المكتب بعد العشاء، بينما فريدة وهاشم في غرفة نومي نحاول ألا نصدر صوتًا كي لا نزعجه.. لا يأتي أيًا من هذا لمقدمة وعيي، لا أستحضره ولا يحضر من نفسه ولا أذكره مطلقًا.

كأنه لم يحدث، كأنني لم أحدث.

وهذا بالضبط ما يؤلمني: أنني غير مرئية، أنني أعيش في منزل يهدّني ببطء وثقة، طوبة وراء الأخرى، خلية ميتة وراء الأخرى، عصب تلو عصب. ما كانت علّة آنا كارنينا كي تترك منزلها وزوجها وابنها وتحب رجلًا آخر ثم تنتحر في النهاية؟ أظن أنها نفس العلّة: غير مرئية ولا محسوس بوجودها، واجهة جميلة، نستدعيها في الحفلات ونطلب منها صنع السلطة في الأعياد، يأتي الزوّار المهمون أو أصدقاء العائلة فنفخر أمامهم بكتبها والجوائز التي حازت عليها، نفس الكتب التي حاربنا كتابتها والقراءة التي أدت إليها وحبسناها في البيت كي"تلتفت لمستقبلها وما هو أهم"، ثم عافرت ونجحت وفازت ففخرنا بإنجازاتها.
أعرف أن كارنينا لم تعانِ من هذا كله، ربما لم تكن تلك علّتها أصلًا، فأنا لم أقرأ الرواية ولا شاهدت الأفلام ولا أنوي، ويأتي الأستاذ عبمجيد من داخلي فينظر لي من فوق نظارته ويقول لا يجوز، ككاتبة ومدققة يجب أن تتأكدي من كل معلوماتك، فألقي في وجهه ببقايا كوب الشوكولاتة الذي أصبح باردًا الآن، وأرفع له الإصبع الأوسط وأكمل الكتابة. ما صدّقت.
.
عندما توفّي د. أحمد خالد توفيق بكيت بشدة، بكيت فعلًا، سمحت لمشاعري بالخروج، بقدَر، ثم التفت لبقية الأصدقاء. مشكلة هذا الحَدَث تحديدًا أن كل من أعرفهم تقريبًا كانوا يعرفونه ويحبونه أو على صلة شخصية وثيقة جدًا به. صرت أحادث أشخاصًا لم أكلمهم منذ سنوات لأرى كيف أحوالهم، أقول لهم لا تقضوا هذا الوقت وحيدين، تحدثوا مع من تحبون. بذل آخرون محاولات مماثلة، فجلسوا معًا وربما غنوا أو دخلوا في مجموعات علاجية مخصوصة، لا أعرف بدقة.
لكن ما لم أنتبه له أنني كنت، كصديقي المقرّب، أدفن مشاعري، تحت جدًا، عميقًا، كي أستمر بالحياة.
مرة واحدة فقط انهرت تحت وطأة هذا الدفن، وانهرت أمامه ورحت أبكي بقوة، مستندة لى جدار كنيسة البازيليك، وهو يتكلم ببطء كبير وكلمات مطمئنة، حتى هدأت وأصبحت أفضل. قال إنه أيضًا لا يعرف كيف يواجه ويفضّل ألا يفكّر في هذا الأمر، وعندها انتبهت لألمه الذي يخفيه جيدًا وتوقفت عن البكاء والتمخط. المشكلة أنني، بعدها مباشرة، توقفت عن مكالمة أصدقائي المقربين منهم والعاديين، لم أتحدث بيني وبين نفسي حتى عما حصل، لم أحكِ لطبيبي النفسي الذي ضغط ليعرف مشاعري فبكيت بقوة أمامه، ولم تحدث ثانية. لا أقول "الله يرحمه"، لا أعترف أنه مات، أصلًا.

تزورني كوابيس لعينة أبكيه فيها بقوة. يقول من يبكي في أحلامه إنه يستيقظ ليجد الوسادة مبللة، أحسده بقوة لأن دموعي لا تنزل أبدًا مؤخرًا، أنتحب فقط وأستيقظ على صوتي، أرثيه بقوة وعنف وأستيقظ على صوتي وقلبي يبكي بعنف هائل وأقوم محطمة من السرير فقط لأذهب للحمّام، لولا شرب الماء القهري والعطش القهري ما شربت ماءً أصلًا ولا دخلت الحمّام ولتدمرت كليتاي تمامًا مع كل الأدوية التي أتناولها، وما نهضت من السرير، أصلًا.

في بيتي، كنت أبكي بصوت عالٍ مسموع جدًا، أول استيقاظي وقبل ذهابي للنوم ولدى صنعي الطعام وعند الردّ على أصدقائي. منذ حطّي بثقل في بيت أمي، لم أعد.
اكتشفت أني أدفن مشاعري أنا أيضًا بقوة، لكنها تخرج رأسها من بين ثنايا كوابيسي البغيضة وأمام الأفلام ووقت سرحاني في الحمّام. صرت أقضي أوقاتًا أطول في التواليت، واكتشفت أنني أهرب منهم. لم تعد السماعات كافية، ولا دفن رأسي في شاشة اللاب توب، ولا الخروج من المنزل، كافيًا للهرب منهم. أصبحوا كتلة واحدة مموهة بلا ملامح، إخوتي وأمي، كتلة من البغض والشر والقسوة والتجاهل والإهمال وانعدام المشاعر. لم يعودوا "أمي"و"أخي وأختي"، بل ناس بلا ملامح ولا اتجاهات محددة.

بالنسبة لهم أنا غير موجودة، لم تأتِ أختي ولا مرة واحدة لزيارة منزلي ولم تعتذر حتى عن انشغالها. لم تر ما صنعته فيه ولا كيف زيّنته، لم تر النور خارجًا من وراء الستارة الملونة ولا انكسار الغسق في غرفة المكتب، لم أصنع لها كوب شوكولاتة ولا قهوة ولا حتى شاي، لم تر صورتها المعلقة في المكتبة، أول مكتبة وضعتها في منزلي بمساعدة زوج صديقتي، التي نسيت تمامًا أنني قابلتها في منزلي وأنها أول من دخلته من أصدقائي، بجملة ما نسيت بيتي وكل ما يتعلق به. لا أعرف حتى الآن لماذا وضعت صورة أختي في المكتبة؟ لماذا وضعت صورة أيهم، أي من العائلة، في بيتي؟

أنا غير موجودة، بالنسبة لأختي، إلا حينما تصرخ في وجهي أن أفتح التكييف أو أغلقه أو أطفئ المروحة أو أطفئ النور أطفئ النور أطفئ النور، أو أغلق الباب أو أخرج غسيلي من الغسالة لأنها يجب أن تغسل الآن حالًا لأنها لا تملك وقتًا تضيعه بينما نحن نملك كل الوقت، العابثين اللاهين الذين لا نعرف مصلحتنا ولا نعرف قيمة النقود لأننا لا نتعب في جمعها وكسبها -نفس التعليق سمعته من صديقتي المقرّبة مرة ولا أستطيع نسيانه رغم اعتذارها- أو صراخها في وجوهنا أن نترك طعامها في الثلاجة لأنها تبني عضلاتها وتحتاج للبروتين، ورغم أنني أتفق في أن الإنسان يحتاج للبروتين كي يبني عضلاته، فإني أجد صعوبة قوية في تصديق أنه يحتاج للتونة والدجاج والجبن والتين في نفس الوجبة، كل يوم.

أختي تريدني على مزاجها، على مقاسها تمامًا، وما عدا ذلك فأنا غير موجودة أو مزدراة ولا أصلح للكلام معي حتى. أختي تريدنا كلنا على مزاجها، لكن مؤخرًا أصبح هذا الأمر يسبب تهديدًا قويًا لها لأنها تريد العالم كله على مزاجها ما خلق مشاكل عنيفة لديها في العمل، لا تفهم لماذا يتصرفون هكذا وهم لا يفهمونها! عدم نضج كامل، عدم نضج تام، تعاني منه هي وبقية إخوتي وأمي وأفضّل عدم التحدث عن أبي بما إنني أتمنى أنه لم يولد أصلًا، عدم نضج هائل، رغم أن الشعب كله يعاني منه، فإنني لا أفهم حتى الآن لماذا أدفع أنا ثمنه. كنت غير ناضجة لـ30 عامًا وأشعر أن العالم "محقوق لي"أو على العالم أن يصلح من نفسه ليوائم احتياجاتي ويستجيب لكل مطالبي، ثم وصلت لجزء من النضج وبدأت أتحمل مسؤولية نفسي. ما لا أفهمه حتى الآن، لماذا يجب أن أدفع الثمن، 31 سنة أدفع الثمن، ولا أعرف متى سيتوقف هذا الاستنزاف.
.
أرقد على ظهري لثلاثة أسابيع لا أعرف كيف أواجه العالم خارج سريري، لا أعرف كيف أتعامل مع أي شخص أو آلة أو حتى كتاب. أستعيد قدرتي على الكلام تدريجيًا وأستغيث بأصدقائي وأقابل أحدهم وأكلم الآخرين، أرسل رسالة امتنان لصديقي المقرّب فيراها ولا يردّ. أتناول طعامًا لا لون له ولا طعم وأكرهه مع كل قضمة، ولا أستطيع تغييره. أحاول مغادرة الفراش والتصالح مع نفسي وبعض أصدقائي، أجاهد في تكوين جمل، لا أجد شوفانًا في الثلاجة لأفطر به، أضع أي شيء في طبقي لآكل ثم أكتشف أنني نسيت طعم الأكل الحلو أو طعم السعادة أو أي شيء آخر جميل، وأن قلبي ميت تمامًا، وعطب ومظلم ويؤلم كل خلية بداخلي، ولا أعرف كيف أواجهه ولا ماذا أفعل الآن، بعد كل الكتابة المظلمة تلك.

أشعر بالذنب.

أتمنى طلب المساعدة لكني لا أعرف كيف ولا متى ولا أين.

أحلم بالمأوى أو القبو أو الأنفاق التي نهرع إليها للنجاة من القصف. أي قصف؟ لا أدري، لكن أفكّر في أي الكتب أصطحبها للملجأ وشموع وكبريت وولاعة ومناديل للتواليت. أستيقظ على تساؤل أي الكتب أفضل لاصطحابها، ثم أتذكر أنني في الحاضر وأني عطشانة جدًا ولم أتناول دوائي بعد وأن الحاضر ثقيل جدًا، ومؤلم جدًا، ولا خلاص منه، تقريبًا.
.
2-9-2018

دماغ صاحية جدًا

$
0
0
باب إحدى ورش الفخار، قرية تونس، الفيوم. تصويري.

غريبة هي الطريقة التي تتداعى بها الأشياء كي تعرض جمالها، أمامي.

منذ الصباح وأنا في حالة مزاجية معتدلة، وغريبة جدًا. ربما هي لعبة الهرمونات المعتادة، لكنّي، وبضغط مضبوط تمامًا كافٍ للتفرقة بين الحقيقة والخيال، قلت لنفسي إنها طريقة الزمن والأشياء لمصالحتي. لماذا على الزمن أن يفعل ذلك؟ لأنه آلمني وأغضبني كثيرًا جدًا، وما يزال، لذلك عليه التدخل لأن الزعل الطويل ليس في صالحه.

بعد الإفطار ومحاولات ضبط المزاج وضغط دمي، وتجنب كل أسباب العكننة مثل الفيس بوك أو المناقشة مع أي من أهلي -الصراحة أخي الصغير قافل تمامًا منذ فترة ولا يتبادل معي حرفًا واحدًا، احترمت صمته وتركته في حاله، بل صنعت له عصير جوافة أيضًا- جلست إلى المكتب، النشاط الذي نسيته منذ فترة وأحاول مصالحتي عليه بعد الحصول على الكيبورد الجديدة، ذات الصوت المنخفض فلا تثير التكتكة عليها أعصابي وتدفعني للجنون، والتي وجدت بها أيضًا أزرار للتحكم في الصوت! يا للرفاهية إذًا.

أقول جلست للمكتب قبل المغرب بقليل، راجعت بعض الإيميلات التي انتظرت طويلًا كي أردّ عليها، ثم سمعت شخير أخي فتركت له الغرفة -لا يوجد مكان بغرفتي أنا وأختي للمكتب، ولا لي لو أردنا الانزلاق للرثاء للذات. استيقظ بعد فترة وخرج، فاستغليت الفرصة: جلست إلى الجهاز، شغلت "يا مسهرني"بصوت سيد مكاوي وعوده فقط، وفتحت صفحة وورد لأحاول العمل.

طبعًا "سهّرت أفكاري ويّاك"والدندنة الهادئة جدًا، لا تتركان مجالًا للعمل.

فجأة انتبهت لجمال مقابض النيش الذي استخدمه مكتبة منذ شهرين، بعد أن نظفتها جيدًا ولمعتها. أرفع رأسي الآن وأنتبه لحرفي الراء والزاي في اللوحة التي حفرها لأجلي صديقنا اللطيف جدًا ياسر، المهندس المعماري الذي اتجه مؤخرًا للعمل بالخشب الذي يعشقه. صمم لي لوحة تحمل الغلاف الأمامي لكتابي الثاني، لأنه لم يستطع حضور حفل توقيع الكتاب. لو كنت أعرف ذلك لصممت على ألا تحضر الحفل! لم يبد اسمي جميلًا هكذا منذ فترة طويلة جدًا، لا أستطيع عدّها.

في الدقيقة السابعة عشر من التسجيل، يأتي صوت العود، العود فقط، ثم "يا مسهّر النوم في عينيا"، بصوت الشيخ سيّد. يأتي في ذهني تعليقي المكرر الممل أنني لا أسهر لأجل أحد، يعني لا أحد يسّهر أفكاري وياه، لأني أعاني الأرق أساسًا! مؤرقة أفكّر في حلول للاحتباس الحراري وأضع الخطط لكل شيء، ثم أصاب بالإحباط وأهرب للمنزل على البحر، المستوحى من فيلم جميل لكن نهايته كئيبة جدًا، أسقط النهاية بطبيعة الحال وأحتفظ بصورة المنزل في ذهني كمهرب دائم: ينتظرني كي أذهب إليه.

تستمر الدندنة. في المقالة التي أريد ترجمتها تقول الكاتبة يجب أن نشرب ماءً كثيرًا، أرفع الزجاجة الصفراء إلى جواري وأبتسم وأخبرها بأنني أفعل، آخذ جرعة صغيرة. يلفت انتباهي مربع البلاط الصغير جدًا، المرسومة عليه ورقة شجر تشبه تمامًا ريشة الكتابة قديمًا، والذي اشتريته من الفيوم مطلع هذا العام. في السابق، كلما نظرت إليه شعرت بالذنب: دفعت فيه مبلغًا كبيرًا. حاولت اليوم استرجاع أصل تلك الفكرة: دفعت فيه 15 جنيهًا فقط، فمن أين أتى الشعور بالذنب؟ اكتشفت أنني سمعت هذا التعليق من زميلة لي في العمل، وكانت رحلة تابعة للعمل بها ناس كثيرة جدًا وكنت وحيدة تمامًا وتعسة وساقي تؤلمني بشدة. قالت "حصلنا على مثله بـ10 جنيهات فقط"لم أجادل واشتريته. أفكر الآن أننا نُسرق في كل وقت، حتى لو لم نفعل شيئًا أو نخرج من المنزل، نُسرق بشدة ومنهجية، فما فائدة أن أجادل في 5 جنيهات إضافية لفتاة أصغر مني بنحو 10 سنوات تعمل طول النهار بيديها في الطين لتشكّل وترسم وتلون وتحرق؟

لهذه الأسباب تحديدًا أحب زيارة الأماكن الجديدة وحدي، ومشاهدة الأفلام وحدي وتجريب الطعام الجديد وحدي، لا أحب أن تفسد تعليقات الآخرين التجارب الجديدة عليّ، وأنا أصلًا حِملي ثقيل، أشعر كما قالت سيلفيا بلاث بأنني عشت 100 عام سابقة وعليّ إكمال هذه الحياة، عدة فتيات في جسم واحد ودماغ أجهدت من طلب المساعدة.

على المربع ريشة حمراء قانية، تذكرني بأنني كاتبة، وعليّ ألا أتشاغل عما يبهجني فعلًا: التقاط التفاصيل وتسجيلها. تكتكة الكيبورد لرسم أشياء جميلة، قوة المخيلة وحماستها، الاحتفاء بالأنفاس الداخلة دون عناء، وقرب الاستغناء عن أحد الأدوية المجهدة، وحلول الخريف في بلاد الشمال الباردة، وبدء الدراسة بهوجوورتس بينما الولد الذي نجا مهدد بأن يصبح "الولد الصغير الذي نجا"للأبد، بإغفال متعمد لمغامرته الثامنة مع أطفاله.

أمامي، أسفل اللاب توب، صندوق صغير أضع فيه زينة الكريسماس، يرفع الشاشة كي لا أحني رقبتي المجهدة بعنف. تسقط عيني على رسمة خفيفة لمزهرية بها ورود، بقلم رصاص لا يغرقها في التفاصيل، في خلفية ورق الهدايا المزخرف خفيفًا، والذي اشتريته من مرتب الشهر الماضي لأنه يذكّرني بإنجلترا الخمسينات. جلّدت الصندوق، الذي كان لحلوى المولد من سنة بعيدة لم تهتم كثيرًا لسعر السكّر ولم تتخل عن وضع الملبن في خيط واحد طويل نتلهف للحصول على أنصبتنا منه بعد تقسيمه. غلفته ووضعت له غلافًا شفافًا للكتب كي لا يتمزق ورق الهدايا. نسيت، في غمرة الاكتئاب الآخذ في الانسحاب، أن أتأمله وأرى مدى جماله.

ينتهي الشيخ سيّد من الدندنة على العود، فيأتي الدور على بليغ، في دندنة مماثلة، ليقول "خليك هنا خليك، بلاش تفارق"التي ارتبطت في ذهني بصوت عم "عيد ميلاد"يسأل نجوى "شايفة الفال؟ سايبة مين هنا بقا ومسافرة؟"وأتمنى السفر بشدة، أريد شراء فساتين جديدة والسفر، ثم أنتبه إلى أنني أريد أن أصبح "نجوى"جدًا مع فارق أنني أعرف أنني جميلة، أحب أن أسمعها لكني أعرفها وأبتسم كلما تذكرتها.

في الأسبوع قبل الماضي، وسط حزن هائل يشبه الحِداد الثقيل، دفعت نفسي دفعًا لمقابلة أصدقائي، أردت الشعور بالحياة. قبل خروجي من البيت، وقفت أسفل النور القوي في منتصف الغرفة أحاول ضبط الكحل: فجأة راعني التماع الضوء على قزحية عيني. اكتشفت أن عيني بنية وأنني لو ضبطت الكحل أصبح جميلة جدًا، فقط لو انزاح الحزن الهائل وأصبحت نظرتي صافية.

يأتي الدور على وردة وبليغ يغنيان "إنتا تروح وتمشي وأنا أسهر منامشي ياللي مبتسهرشي"وأسمعها دائمًا "ياللي مبتفهمشي"وأجدها مضحكة ومنطقية أكثر. يأتي على خاطري كم أنا محظوظة بكمية الأغاني المدهشة التي اكتشفها، والتي تجد طريقة ما في الوصول إليّ. في مطلع أغسطس الكئيب جدًا، ذهبت في نزعة مفاجئة تمامًا لحفل موسيقي للست دلال أبو آمنة، فقط لأنني وجدت فيديو تدريباتهم على الفيس بوك قبل الحفل بساعتين، وكانوا يتدربون على الدبكة، وأنا طول عمري أتمنى مشاهدة الدبكة أمام عيني مباشرة وليس من خلال شاشة.

ذهبت متوقعة أن كل أغانيها فلسطينية، لكنها كانت طروب جدًا وخفيفة وتضحك في الميكروفون وكل شوية تقول "تحيا الستات"كلما سمعت سيدة تزغرد. قالت "عايزين حاجة للست؟ الشيخ سيد"وقررت غناء "يا مسهرني". أصبت بخيبة أمل، ما علاقة "يا مسهرني"بـ"يا ظريف الطول وقف تاقولك"؟ ثم قررت الاستمتاع، وفكّرت "ستكون ألطف لو بصوت سيد مكاوي."

ذهبت للمنزل بعد مكالمة طويلة ولطيفة جدًا مع صديقي المقرب، وبالمصادفة كانت آخر مرة ابتهجت فيها بالخروج وضحكت فيها من أعماقي، طول أغسطس ابن الكلب ده. وصلت وبحثت عن "يا مسهّرني"ووجدتها بصوت سيد مكاوي، على العود فقط، تعد بساعات لا نهائية من السرحان والحلم ومحاولة تأمل النقرات الخفيفة على العود وسحر اختلاف الأوتار، وقابلة للسرحان معها في نقشات الفخار ورسم ورق الهدايا وطريقة صفّ الكتب، وانكسار الضوء عبر القزحية البنية، المؤطرة بالكحل.
.
روز
4-9-2018

وامتداد الخط على استقامته..

$
0
0
"أنا أحد أعضاء أخوية المصابين بالاكتئاب والقلق واضطراب ما بعد الصدمة، وما يُستجد من أمراض، ورُهاب، وتوقعات بحسن مآل الدنيا والخلق. (أخوية) لفظ فيه ما فيه من الإيحاء بالسرّية والتقارب والانطواء تحت راية واحدة، والعالم قاسٍ، العالم قاسٍ جدًا يا دكتور. أنا أتوقع السوء في كل أمر، ولأن الحياة ليست تفصيلًا على مقاسي، فهي تحدث بخيرها وشرها، بحلوها ومرها. الفارق بيني وبين غيري أني أبحث عن الشر بالمِجهر، أني أتجاهل الخير عمدًا أو عن غير عمد، فأراه صدفة، أو تمثيلية، أو حدثًا عارضًا على خلفية من الأسود القاتم، أو لمعة خاطفة تفرح بها لأقل من ثانية، قبل أن تعرف عن قرب أنها شفرة السيّاف.

لساعات، أعد نفسي أني سأبحث كذلك عن الخير بالمجهر، فأدعو فلانًا إلى موعد، وأرسل رسالةً إلى علان أسأل عن حاله، وأفتح كتابًا جديدًا، وأجري نصف ساعة في الفجر، لكن فلان لا يرد، أو يعد ولا يأتي، ولا يكلف نفسه عناء الاعتذار، أما علان فلا يرد أصلًا، أو يرد (الحمد لله) وكفى، والكتاب أفقد تركيزي ولا أكمله، وأجري كثيرًا حتى أنام كحجر، فأصحو بعد دقائق، زادت أم كثرت، على نوبة هلع من حيث لا أدري. الوساوس نفسها هي التي تقتل تركيزي، فأنا أعرف قبل أن أفتح الصفحة الأولى أن أحدًا لن يأتي، أن أحدًا لا يرد، تقول إن هذا تأثير الاكتئاب الذي يلعب بعقلي، أو يغير العالم في عيني، وأن ما أراه ليس الحقيقة، تقول لي أن الاكتئاب يشبه الجنون هنا، يلامسه هنا تمامًا، في الحد الفاصل بين الواقع كما تعرفه، والواقع كما يعرفه مجموع الآخرين، أؤمّن على كلامك، لكن لا حيلة لي في شيء. عقلي هو شباك لغرفتي أطل منه على العالم، لكنه شباك مترب الزجاج، عكر الهواء، وهو شباك وحيد كذلك، والغرفة كلها إيجار جديد، وقد أوشك العقد على الانتهاء.

يا دكتور، كلامك عن عقلي نفسه هو المشكلة، فإن كان كل ما حولي أراه بالعقل، والعقل مريض، فأين الفاصل بين ما يحدث حقًا وما أتخيله. تخيل امرأة في أصعب أيام عادتها الشهرية، تتشاجر مع زوجها لسبب ما، ربما لأنه استحم وخرج من الحمّام بشبشبه ليحمم بلاط الشقة، ويخلق الطين من حيث لا يعلم أحد، أو ربما لأنه تظاهر أنه لم يسمع جملة قالتها، أو لم يهتم بما فيه الكفاية، تخيل مثل هذه المرأة، والتمس لها عذرًا، فهي في عز انفعالها لا تعلم حقًا، هل هو مخطئ، وابن أمه، أو ابن كلب، أم هي المجنونة بالهرمونات. خذ كل غضب المرأة في لحظة حيرتها، ذلك الغضب الذي هو أكبر من الهرمونات، واضطهاد المجتمع للمرأة، والانطباع السائد بهستيريتها، هذا الغضب الحائر، هذا الغضب المحمل بالشك في كل شيء، هذا الغضب الخارج من عقل لا يعقل حقًا، خذه واضربه في مليون أو أكثر، وفكر فيه قليلًا. هذا أنا.

أكثر ما يزعجني في تقلباتي المزاجية هو تلك اللحظة، عندما لا أكون على دراية حقيقية، هل يستحق الأمر كل هذا الغضب، أم أني أحتاج للحظة طويلة، أغلق فيها الباب على نفسي، وأعد من 1-100، وأسدد اللكمات لكيس رمل خيالي ألف مرة، ثم أصلي وأقرأ القرآن، وأستحم، وأمارس العادة السرية، ثم أخرج من غرفتي مدركًا تمامًا أن الأمر لا يستحق.

الحقيقة أن هذه الأخوية هي الشيء الوحيد الحقيقي. لن يفهمني سوى من مر بمثل ذلك. لن يفهمني سوى مجنون مثلي. لا تحاول أن تهوّن على مريض بالسرطان فتقول (أنا أفهمك). لا، لست تفهمه، ولن تفهمه ما لم تكن مريضًا بالسرطان. الاكتئاب سرطان كذلك. وخبيث كذلك. لا يتغذى على الخلايا المجاورة، لكنه يكسب أرضًا جديدة في عقلك كل يوم، فيقضي أول ما يقضي على شبكة دعمك، فتتوقع السوء، والمرض، وغدر الأصحاب، وكل ما هو مكتوب على ظهور ميكروباصات العالم. ثم يتسيد، فلا ترى العالم إلا من شباكه، ثم تصير عبدًا له، تستيقظ فتظل بالساعات مفتوح العينين على نفس السرير، فخارج هذا السرير أسوأ، أسوأ حتى من كوابيس هذا السرير. خارج هذا السرير تحدث الدنيا، وأنت تدور فيها بمجهرك، تبحث عن السوء، وتتوقع السوء، ولا ينقصك إلا أن تفرح بهذا السوء."

عباس حلمي - منجم الذكريات الحزينة

كيف نهرب مما لا مهرب منه؟ وهل تصحّ الحياة بلا جمال؟

$
0
0
اليوم - الذي شارف على الانتهاء بعد 6 دقائق - 10 سبتمبر، اليوم العالمي لمكافحة الانتحار أو للتوعية ضده، حسب الترجمة التي تروق لك.

للأسف أجّلت كثيرًا جدًا الحديث حول هذا الأمر.

منذ عامين، تحديدًا في 2016، بدأت التفكير جديًا في الانتحار. لم يكن "ما ننتحر بقا ونخلص؟"وأصرف الفكرة، بل جاءت فجأة وركبت عقلي. أذكر أننا كنا في أول رمضان، وأنني لم أستطع الصيام أو الامتناع عن المياه تحديدًا، لم أعرف السبب الطبي حينها، لكني كنت متألمة جدًا جدًا، حلقي جاف وروحي تعاني من عذاب بالغ: لم أفهم لماذا لا يمكنني الإفطار ولا ماذا يحدث لي.
فجأة احتلّت هذه الفكرة كل عقلي وتفكيري وإحساسي. لم أعرف ماذا أفعل ولا كيف أتصرف، لم أستطع حتى الخروج من الغرفة أو فتح الباب وطلب المساعدة. كنت على وشك الصراخ، تمامًا وجدًا، لكن بسبب التربية المتحفظة التي تلقيتها، والتي تلغي تمامًا أي تعبير عن المشاعر لا بالسلب ولا الإيجاب كأننا طوب بناء، لم أستطع. كان عقلي يكافح للتحرر وفكرة الانتحار تلحّ بقوة وروحي متألمة بقسوة ولا أستطيع البكاء.

في النهاية، اتصلت بالطبيبة التي كنت أتابع معها، آنذاك.
كانت طبيبة غريبة جدًا، لم تفدني بشيء، وضرّتني أكثر مما أفادتني. أذكر أنها كانت متكتمة جدًا حيال حياتها الشخصية حتى إنها صُعقت عندما عرفت أنني أعلم بزواجها! ليه هو الجواز عيب؟ هل سأحسدها مثلًا؟
اتصلت بها وسألتها ماذا أفعل، أريد الانتحار حالًا، سأرمي نفسي من الشباك.
قالت لي ردودًا متخلفة على غرار "اسمعي مزيكا بتحبيها لمدة ساعة وبعد كده كلميني تاني"وحددت لي ميعادًا في اليوم التالي، قلت لها لن أعيش لليوم التالي. حينها اقترحت عليّ المستشفى، حيث تعمل.

الفكرة العلمية الجافة تقول إن من يفكّر في الانتحار الأفضل له أن يوضع داخل المستشفى، تحت المراقبة الطبية حيث تُبعد عنه كل الأدوات الحادة، ويُعطى مهدئًا قويًا حتى يهدأ نوعًا، ثم تبدأ جلسات العلاج بالكلام.

هذه "الفكرة العلمية الجافة"كلفتني من صحتي النفسية وإحساسي بالأمان أكثر بكثير جدًا مما كان سيحدث لو كنت انتحرت، أكثر بكثير مما استطيع احتماله، حتى الآن، حتى بعد مرور عامين ومع العلاج القوي مع طبيب شاطر جدًا، ما زالت تلك الفترة "مكانًا مظلمًا جدًا"لا أستطيع دخوله لا وحدي ولا مع صديق لطيف ولا بحضور الطبيب.

كان المستشفى، الأغلى في الشرق الأوسط، الذي انحرفنا إليه في طريقنا للمستشفى الآخر الذي تعمل به الطبيبة، بسبب تفضيل أخي الأوسط الذي كان "يقود السيارة حينها"لأنه سمع أنه الأحسن، وخالف تعليمات الطبيبة، كان جحيمًا. أحيانًا أفكّر أن أحداثًا كثيرة جدًا وآلامًا كنت سأتجنبها لو لم أسلّم أمري لمن كان عليه الدور في قيادة السيارة، في أي وقت من حياتي، بالمعنى الفعلي والمجازي.

والجحيم، في تلك الحالة، سأختصره جدًا جدًا إلى جملة واحدة فقط: توقعت المعاملة الحسنة ففوجئت بعكسها تمامًا، توقعت التفهّم والأمان ففوجئت بالاحتقار والتعالي السخيف، توقعت أن ينتبهوا للمرضى تحت أيديهم لكن أسوأ من الكوابيس كان يحدث.

مصير لا أتمناه على أي إنسان لو أمكن تجنبه. مع العُصاب، أي الأمراض النفسية الأكثر شيوعًا مثل الاكتئاب أو الوسواس القهري، يكون المريض واعيًا بحالته وبما يفعل، ويمكن بشيء من التوجيه أن يتجنب إيذاء نفسه. لكن مع الذُهان، للأسف، مثل الفصام، يستدعي الأمر في كثير من الحالات أن يوضع في المستشفى لضمان ألا يؤذي نفسه أو الآخرين، ومن أجلهم قلبي ينفطر.
.
أتحدث بهدوء شديد الآن، أسمع دندنات على العود وأزيز المروحة، أكتب بهدوء يقترب من الملل، لكن الأمر استغرقني سنوات، وقتًا طويلًا جدًا ومحاولات مضنية، للتحسن.
.

ما كان في ذهني ساعة أن اتصلت بالطبيبة، فكرة صغيرة جدًا ملحّة لا يمكن صرفها بسهولة، تقول "ما يمكن فيه حل تاني غير ده؟ يمكن فيه حياة تانية غير دي؟ يمكن فيه واقع تاني، أكتر جمالًا وإنسانية، من ده؟"

وفكرة "الأشياء الجميلة جدًا"التي قد تفوتني، يا سيدي الفاضل، تعذبني جدًا أكثر من الرغبة الملّحة في الانتحار.

للأسف عشت جزءًا كبيرًا من عمري محرومة من الجمال: طفولة بائسة، ليس بها لعب إلا قليلًا جدًا، أشياء نادرة مبهجة يمكن الحرمان منها بكل سهولة، الطعام قليل ومصاريف الدراسة نحصل عليها بشق الأنفس، لكن الأسوأ: الصرامة والحرمان من المشاعر.

لم يكن متاحًا لنا التعبير عن مشاعرنا، تحت أي مسمى ديني أو أخلاقي أو أنه "لعب عيال ومسخرة".. كبت قوي جدًا، أقوى من الجدران التي يمكن أن تنهدّ بسهولة واضحة تحت زلزال 92 أو توابعه، أحدث شروخًا عنيفة في روحي لكن بعدما شارفت على الثلاثين.

الآن، بعد عامين من تلك الواقعة، لاحظت أن أكثر جملة أقولها لأصدقائي مؤخرًا لأصف بها منزل أهلي "مفيهوش ضحك". الحقيقة هو مفيهوش أي حاجة خالص، لا مشاعر حلوة ولا وحشة، حتى الزرع يموت هنا.

في رمضان البائس ذاك، عذبتني فكرة أنني لا أستطيع الإفطار لأن ربنا سيلقيني في جهنم حدف. من أين أتتني هذه الفكرة؟ من كل المحيطين بي، من تربية وسخة وثقافة مجتمعية أوسخ. ربنا نفسه أعطانا الرخصة للإفطار في حالة المرض أو عدم الاستطاعة، نسحبها نحن من بعضنا تحت أي مسمّى بالضبط؟
عذبتني جدًا فكرة أن ربنا غضوب جدًا وقاسي ولا يرحم، وسيقذفنا كلنا في النار مهما فعلنا. كان بداخلي تساؤل: طالما خلقنا ليعذبنا ويلقينا في النار في النهاية، ما الهدف من الخلق؟ ما الهدف من الحياة نفسها؟ وكيف أتيت لهذا العالم، لربّ يتمتع بقسوة لا نهائية؟ ما الذي فعلته يعني كي يخلقني ويستمتع بإلقائي في النار؟

أكرر "عذبتني"في وصف وقع هذه الفكرة عليّ لأنها كانت تنهش روحي نهشًا: كل قطعة تنسلخ من روحي تترك مكانًا داميًا ولا يلتئم. كان الألم فوق الوصف، عصيّ على الكلمات وعلى التحمّل.
.
الآن، في 2018، لم أصم أي يوم من رمضان الفائت، ولم أشعر بأي ذنب. لديّ عدة أسباب طبية يستحيل معها الصيام وإلا تعرّضت لأذى جسماني عنيف ربما يصل للغيبوبة. لا داعي أصلًا لأن يكون الأذى الواقع عليّ من الصيام عنيفًا أو مفضيًا للوفاة، يكفي أن نعرف أن ربنا سمح لنا بالإفطار، خلصت خلاص.

وقت أن أخبرني طبيب الباطنة بأنني لا يمكنني الصيام وضحك وعلّق "بتضحكي على مين؟ على ربنا؟ لما تخّفي يبقى عوّضي!"وقال إنه هو من فرض عليّ الصيام والمرض وأعطاني الرخصة! باخدع مين بقا؟
وقت أن قال لي هذه الكلمات، بتلك الخفّة وهذا الضحك، شعرت بامتنان هائل: انفتحت السماء فجأة ورأيت ربنا، رأيت جزءًا من رحمته وعدله ولطفه، وأنه طيّب جدًا ولا يحبنا أن نتعذب، لم يخلقنا لأجل ذلك.

سأظل عاجزة عن شكر هذا الطبيب كما يجب، ولا أستطيع التعبير عن امتناني له ولكلماته. ربنا موجود في الرحمة التي يظهرها الآخرون تجاهنا، وليس أجمل من الرحمة.
.
.
بعد مغادرتي للمستشفى، مكثت قرابة الشهرين أتابع الجلسات مع المعالجة النفسية التابعة لذلك المشفى، وهي الشخص الوحيد العِدل في تلك المؤسسة البضان كلها. لم تنفعني كثيرًا، خاصة أنها كانت بعيدة وثمن جلساتها مرتفع جدًا، والعاملين في مكتب الاستقبال ينظرون لي بريبة سخيفة كلما جئت للدفع. توقفت. سقطت في اليأس تمامًا، وحاولت الانتحار، ثانية.

بعدها، ذهبت لطبيب عرفته قديمًا، كنت أزوره في مكان سابق لكنه استقال منه ثم افتتح عيادة خاصة. ذهبت إليه لأنه أبدى بوادر تدل على أنه "شخص بيفهم". ذهبت له بتلك الفكرة "ما يمكن..؟"
سألني مدهوشًا عندما عرف أنني أفكّر في الانتحار جديًا "طب ليه جيتي؟"أجبته "نوع من الرصاصة الأخيرة في الماسورة، لأنه يمكن، يمكن تصيب المرة دي."
وكان هذا أروع قرار اتخذته في حياتي كلها.
.
سأظل أشكر الطبيب وأقول إن لولاه، وقد ذهبت لـ6 آخرين قبله، لما كنت هنا، حرفيًا، وسيظل خجلًا لا يعرف أين يخبّئ وجهه، مبتسمًا يقول "لكن ده إنتي، ده شغلك إنتي، فيه ناس كتير بتخضع لنفس البرنامج [العلاج بالتعرّض السردي] ومش بتعمل اللي عليها ومش بتستفيد منه، لكن إنتي بتحاولي قدر طاقتك، وبتنجحي. إوعي ما تكونيش شايفة ده! إنتي بتنجحي."
وأقول له إنني أراه الآن وأعرف وأومن وأشعر بأنني، بشكل ما لا يمكن تفسيره ولا تصديق جماله، أنجح.
.
بعد عام ونصف على محاولة الانتحار الأولى، وبعد مرور 6 محاولات جادّة لإنهاء حياتي التي كانت مفرطة التعاسة، توقفت.

في ديسمبر الماضي، أي منذ ما يقرب من 10 أشهر الآن، ألقيت بالدواء السامّ في سلة المهملات، نويت ألا أحاول ثانية، خلاص مبقيتش عايزة.

كانت قد انفتحت لي سكّة جديدة: حياة جديدة في بيت جديد، اخترعها بنفسي، أضع تفاصيلها بنفسي، أصنع طعامها وأزيّن حوائطها بنفسي، أنام وقتما وكيفما يعجبني وأستيقظ لأفعل الأشياء التي تروق لي. أضحك بصوت عالٍ، أشاهد أفلامًا جميلة تضحكني فأضحك بصوت عالٍ جدًا، يأتي الكريسماس فأظل لعشرين يومًا بعدها أشاهد كل أفلامه المعتادة والمكررة والقديمة والجديدة، أحتفل به وحدي وأزيّن شجرته وسط كراكيب الانتقال للبيت الجديد، وحدي. سيأتي طفل في الخامسة، مع أبويه لمساعدتي في التركيب والنقل وتعليق المكتبات، وسيعجب جدًا بالشجرة وينبهر بها، وسيظل يسمّيني حتى الآن "روز اللي عندها كريسماس"، ويحتضنني عندما يقابلني بعدها بشهور طويلة، ويتذكرني. سيحتضن البيت الجديد بجدرانه التي تحتفظ بالحرارة بشدة، كحضن هائل في الشتاء وفرن لتذويب الحديد في الصيف، كل مشاعري، فأبكي بقوة عنيفة عندما توفّي معلمي الأول والأكبر والأجمل، وسيشهد غداءات وإفطارات مع أخي الأصغر الذي تحسنت علاقتي به كثيرًا بعدما انتقلت، ومع أصدقاء كثر مفرطي الجمال والبهجة. سيدعني أكون أنا، كما أنا، تمامًا.

لأجل هذا تحديدًا، توقفت عن محاولة الانتحار.

رأيت الجمال: عرفت أنه موجود ويمكن الحصول عليه، يمكن خلقه، يمكن التمتع به. كانت كل الأحاسيس جديدة جدًا عليّ: فالقهوة لها مذاق مختلف، نفس البنّ ونفس التحويجة لكن لساني اختلف، الطعام البسيط الخالي من اللحوم -لضيق ذات اليد- أعزّ وأجمل من كل الموائد التي كانت تقام بسدّة نفس وعصبية ونرفزة، الأفلام القديمة العبيطة مضحكة أكثر، الملابس التي كانت تتعرض لسخرية لأنها تظهر جسمي الممتلئ، أصبحت أجمل بشيء من التعديلات، بل أصبحت أكثر غواية، بعدما تصالحت مع شكلي الذي يبدو أنه سيكمل معي المشوار لعدة سنوات قادمة. حتى الأصدقاء: صاروا أكثر قربًا ودفئًا وابتهاجًا، وصرنا نسامح بعضنا أكثر، ونتقبل أنفسنا وبعضنا، كما نحن بلا رغبة في التعديل، لأن التعديل شيء بضان والله.

.
ما زال الاكتئاب مستمرًا معي، خاصة أنه مصحوب باضطراب كرب ما بعد الصدمة، الذي هو من أسوأ الاضطرابات العُصابية التي قد تصيب المرء، لأنه مثل مبنى هائل: يجمع بداخله كل الأمراض والاضطرابات الأخرى التي تحيل حياة المرء لجحيم معاش بسهولة فائقة. لم أشف تمامًا بعد، وللأسف بسبب ظروف كثيرة قهرية تمامًا عدت للحياة في بيت أهلي.

سقطت في بئر سحيقة ظننت ألا مخرج منها، بعد شهرين من عودتي لبيت الأهل. عادت لي كل المشاعر السيئة التي كافحت شهرين لمنعها عليّ: كل إحساس بأني لا أستحق ووجودي غير مهم، كبت المشاعر والخنقة والسخرية، التجاهل والمزايدة، السخرية من الألم والمزايدة "ما غيرك عايش في عيشة أسوأ من دي وما بيشتكيش!"كأنما أنا مطالبة بتحمّل ظروفي السيئة وظروف غيري أيضًا!

كل هذا أسقطني فجأة، لكن، وربما مثلما في كل مرة، أنقذت نفسي، وأنقذني الأصدقاء.

سأظل ممتنة للأبد، مدينة دينًا مرهقًا لا فكاك منه تقريبًا، لكل من رؤوني في تلك الفترة وفترات سابقة، رؤوا ألمي وروحي المفتوحة بفجواتها القبيحة النازفة، ولم يشمئزوا، لم يرحلوا: فقط ظلّوا هنا، من أجلي.

أمس اتصلت بصديقي المقرّب وكنت أشتكي له من أمر ما يؤذيني بشدة. لم أنتبه إلى أنني أصرخ في الهاتف، في وجهه، وأنني أخبرته بأشياء من ماضيّ مؤلمة جدًا. لم أنتبه إلا حينما لاحظت تعرّقي الغزير ورجفة ساقي اليسرى، وهدوء صوته وهو يسألني عن أمر دقيق جدًا استدعى تركيزي، فهدأت.
يقول لي ألا اعتذارات بيننا، يكررها كثيرًا لأنه يبدو أنني أعتذر أكثر مما أتكلم، لكن هل يعرف أنني سأظل ممتنة له لعشر حيوات قادمة، فعلًا؟
.
أسقط وأنهض، أسقط كثيرًا جدًا وللأسف أنهض. ما زال الألم مستمرًا، ما زالت أصعب فترات يومي هي النهوض صباحًا من الفراش: كيف أنزل ساقي على الأرض؟ خارج الفراش صعب وقاس ومؤلم، مليئ بالأخطار التي لا أستطيع مواجهتها، السرير هو المكان الوحيد الآمن حاليًا، ولو غادرته لن يعود كذلك، ولن يبقى لي مكان آمن في كل هذا العالم.

أستغرق قرابة الساعتين، وفي بعض الأحيان 4، للتخطيط من أجل الاستيقاظ: ماذا سأفطر وكيف سأتناول قهوتي، ماذا سأشاهد وأنا أفطر، يجب أن يكون شيئًا مهدّئًا ويفضّل مكررًا ومعادًا لأني لا أريد مفاجآت صباحية. أعيد السيناريو في رأسي مرّات عديدة كي أطمئنها، وبعدها أغادر.

ما زلت لا أستطيع العمل تمامًا: عجز عن التركيز، شعور بالدونية والضعة، إلى جانب أشياء أخرى، تجعلني غير قادرة عن الكتابة أو الترجمة. كم تمنيت لو أن عملي لا يتعلق بالتفكير أو الإبداع! ربما لاستطعت الحفاظ عليه وعلى دخل معقول، الآن.

أكافح من أجل كل شيء، وأحاول، والمحاولات غير مثمرة في أحيان كثيرة جدًا لأن طاقتي قليلة جدًا ومنعدمة في أغلب الوقت، لكن، حتى الآن، لن أحاول الانتحار ثانية: كمن ذاق الحشيش الجيّد مرة فطلب المزيد، ذقت الحياة الحلوة، مرّة واحدة، وأنا بالتأكيد أريد المزيد، الكثير جدًا منها، جمالًا لا ينتهي.
.
روز
القاهرة، 11-9-2018

Article 0

$
0
0
بالمناسبة الحلوة دي، بافتح مدونتي أشوف الجمهور بتاعي مين، لأن الستوكنج حلو برضه، لقيت موقع د. هبة رؤوف :))
أنا معرفش هل ده حقيقي ولا مراقبة، بس ح أعتبره حقيقي في الوقت الراهن، وح أنبسط بيه جدًا وبد. هبة جدًا جدًا، اللي باعزّها فعلًا من قلبي <3 font="">3>
شكرًا يا د. هبة وتعالي كتير :)) :*

لأجل زجاج نافذة كُتب عليه بقلم الروج

$
0
0

أتصل بصديقي المقرّب، أقول له ملتاعة وحزينة تمامًا "مش اكتشفت إننا غريبين، أنا وإنتا وفلان وفلانة، وكل اللي نعرفهم؟"فيطلق ضحكة صغيرة مرهقة، لأن الجو كان مفعم الرطوبة وقتها، ويعلّق "إنتي لسه واخدة بالك؟"

الغرابة، أو الاختلاف، في هذا البلد جريمة، أقل عقاب لها هو العزلة والوحدة والنبذ. سأوضع، طوال سنين الدراسة، داخل قلعة ظننتها شديدة الحصانة والمناعة، أسوارها شاهقة العلو، ممنوعة من مغادرتها، على أمل أن أعود "للطبيعة"وأصبح مثلهم.

لكن الأسوار العالية وحدها، لا تكفي.

في السنوات التالية على التخرّج، يدعونا محمود للغداء لديه في عيد الأضحى، يشوي عبد المحسن اللحم فوق السطوح بينما نحن بالأسفل ننتظر. يصنع محمود سلطة سبانخ بالرمان، فأعرف لأول مرة أن السبانخ قد تصبح ممتعة، خلافًا للطبيخ البائس المعتاد. تجلس نهى على الأرض تفصص الرمّان، بينما عبد الله أخوه يجرّب الكاميرا الجديدة، ويقرر أن يصوّرني. أشعر بالخجل من نفسي وأقول له إن صوري كلها وحشة، فلا يردّ، وكان صموتًا جدًا وقتها وربما ما يزال، ويلتقط لي صورة في إضاءة طبيعية غير حادّة. كانت أول مرة أراني جميلة في الصور.

فيما بعد، سأحرص على ارتداء ملابس جميلة وانتقاء أقراطي بعناية، لأني أعرف أنني
 "يمكن نتصوّر"في تلك الخروجة، وعندما يوّجه أحدهم الكاميرا نحوي، أحرص على الابتسام وفقًا لمزاجي ساعتها: فلو كنت أقضي وقتًا لطيفًا، أقول لنفسي "بنعيش أوقات حلوة أهو يا روز"وأبتسم جدًا، ولو كان ولد وسيم بجواري، تتسع ضحكتي حتى تظهر الغمازتان، لمعرفتي الوثيقة بأنني حينما أضحك من قلبي، تلمع عيناي بقوة، وأصبح أكثر جمالًا.

سأذهب في مسيرة مع أصدقاء تعرّفت إليهم قريبًا، ندخل الميدان الذي لم يعد آمنًا فأظل أتلفت ورائي بقلق بالغ، يلاحظ عماد ما أفعل فيتقهقر ليسير خلفي. لا ألتفت بعدها سوى مرة واحدة، ليلحظ امتناني نحوه. ستظل هذه اللفتة، ووجهه المبتسم الذي تطلعت إليه، بقعة ضوء وحيدة تنير قلبي كلما تذكرت تلك السنة البعيدة، البعيدة جدًا والقريبة حدّ التفتيش في الذاكرة أو الصور أو قوائم المفرج عنهم بقرار رئاسي يمعن في المهانة والتنطع.

يعيدني محمود آخر في عربته للمنزل، حيث يسكن قربي. بطول كوبري أكتوبر ينطلق في ثرثرة ممتدة عن ظرف وقع له أدّى لاتهامه ظلمًا بالخيانة، وقبل أن أعلّق يقول "مش عايزك تفتكري عنّي كده"فأردّ بكلام مبهم، فلم يكن لديّ صوت وقتها، لكنه يفهمني ويضحك ويقول "وصلنا"فألتفت وأجدني أسفل منزل أمي.

فيما بعد، أعرف أن محمود يحب أغاني منير، يسمعها فعلًا ويفهم ما تقول ويتماهى معه، فأتعلم منه أن هناك مستوى جديدًا من السماع يعمل فيه العقل ولا يتعطّل، وأعرف لدهشتي العظيمة أن غالبية الأغاني الجيدّة لم تصلني بعد ولم أتعرّف عليها. وفي عصر سحيق ما قبل الساوند كلاود، يهديني أحمد علي سي دي عليه كل الأغاني النادرة والمنسية لمحمد منير، يتلفت حوله قبل أن يعطيني إياه كأنما يحمل قرش حشيش. على نفس السي دي يضع مريم صالح والشيخ إمام، قبل أن يصبحا "تريند"وهوس محدثي الثقافة. في نفس تلك الخروجة، التي كانت في سيلانترو شارع محمد محمود، أصعد لمكتبة البلد فوقه وأسرح بين الكتب، أسرح تمامًا حتى أنتبه إلى أنني لا أتصفح العناوين بل أنصت للأغنية التي تتردد فوقي: كانت "بندهك"لمنير أيضًا، وكانت شيئًا خارج المألوف والواقع والمعتاد والمُعاش، تقترب من الاستحالة. في اللحظة التالية تتصل بي أمي لتزعق في وجهي بعنف أنها "لم تسمح لي بالذهاب لمكتبة البلد، وكيف أجرؤ على نسيان الوقت؟"رغم أن الليل لم يكن قد حلّ بعد.

ستصدر المجموعة القصصية الجديدة -والوحيدة حتى الآن- للشاب الغامض جدًا والكول جدًا تامر فتحي، فيقام له حفل توقيع نصرّ جميعًا على حضوره. كنا كُثر ونملأ ببساطة أي قاعة يقام فيها حفل للتوقيع حتى نثير دهشة من حولنا وحسدهم، دهشة أفهمها الآن كلما ذهبت لأي حدَث مماثل ووجدت دستة وربع من الحضور. لكني حاولت الذهاب، ورفضت أمي بشدة.

سخرت مما أنوي فعله، وقالت إنني يجب أن "أنتبه لمستقبلي أكثر وأسيبني من الكلام الفاضي ده"، وكبديل لتلك الخروجة الفاضية، عليّ أن أصطحبها لعقد قران حفيدة خالتها، شخص لم أره في حياتي من قبل لا هي ولا أي من عائلتها المحترمين الأفاضل. للمفارقة العميقة والهازئة، يتزوّج أخي الأوسط من أختها الصغرى بعد ذلك التاريخ بثمان سنوات، ويتذكر الأهل أنني "حضرت كتب كتاب الكبيرة"على أنها بادرة اهتمام طيبة من عائلتنا نحو عائلتهم، و"من زمان والله، من زمان".

لا تعرف أمي أنني، بعد ذلك التاريخ بخمس سنوات، سأقيم حفل توقيع لأول كتبي، وحفلًا للكتاب الثاني بعدها بثلاث سنوات، يحضره الصديق العزيز جدًا تامر، في بذلته الرمادية التي تجعله فاتنًا، وإن ما زال يحتفظ بغموضه والانطباع "الكول جدًا"حوله، وأنني وصلت لمرحلة لا أريد فيها ذِكر تلك الواقعة مجددًا، لأنني اكتشفت كوني محمّلة أكثر من اللازم بمرارات تفسد عليّ أيامي، وأنا دماغي متكلفة ع الغالي ومش بالساهل.

في استعادة الأنفاس القصيرة جدًا، التالية للألفين وأحد عشر، أقابل شادي. طالب طبّ وقتها، نهمًا في القراءة، يحمل بين يديه وقتًا أكبر بكثير مما يحمله عشرة منّا مجتمعين. لم أفهم السرّ سوى الآن: شادي سريع جدًا، في كل ما يفعله، حتى القراءة. لذلك كان ينهي الكتب بمعدلات نعجز عن مجاراتها، وإن لم نمتعض منه لأنه طيّب جدًا: يشتري لنا كتبًا عظيمة، مستعملة أو جديدة، ويتركها لدينا لننهيها على راحتنا. لا يعرف أنني من وقت لآخر أزور مدونته خِلسة، وأعيد قراءة تدوينة بعينها يتحدث فيها ببراءة لا يعتذر عنها عن "الكتب الجميلة"وكيف أنها تجعل الحياة أجمل وأكثر احتمالًا. سيظل تعبير "كتاب جميل"ملتصقًا في ذهني بشادي، ولا أطلقه إلا على ما يعجبني بشدة من الكتب، وهو بالضرورة أندرها وأكثرها إثارة للدهشة.

تدهشني سهولة مقابلة شادي، وقتها وحتى الآن. أتصل به فأجده، وقتها والآن. في الألفين وأحد عشر أتعرّض لتجربة انفصال قذرة وغير مبررة، بعد 5 سنوات من التعلّق، فأذهب لمقابلته، أتصرف بسخافة مع الحاضرين وقتها في كافيتريا متحف محمود مختار، لأنني لم أستطع التحكم في مشاعري، وكنت لا أبكي أمام الناس. لم أعتذر عن السخافة بعدها، وما زال الموضوع يضايقني، لكنني الآن وكلما مررت من أمام المتحف، في المرّات المعدودة التي أسمح فيها لنفسي بالذهاب لوسط البلد، أبتسم للساحة والكافتيريا والجالسين فيها، وأراني صغيرة ونحيفة أحمل علبة بيتزا باردة وبلا طعم، وأجلس أمامه لأخبره عمّا حدث.

فيما بعد ننعزل كلنا وينقطع التواصل، لا يعود إلا مؤخرًا جدًا، بعدما لعق كلٌ منّا جراحه بما يكفي، لم تُشف تمامًا بعد لكننا نخرج رؤوسنا من الشرانق، لا للعالم الخارجي لأن العُمر لم يعد يتسع للمزيد من السخافات، بل لصحبة بعضنا.

بعد التخرج بسنة واحدة، أرى رحاب بسّام، في المعرض، وأنا لا أذهب لأي معارض سوى لمعرض الكتاب، لذلك يصبح "المعرض"بأل التعريف المغنية عن أي تفسير. كانت تجلس على طاولة صغيرة، بين غادة عبد العال وغادة محمود، يوقعن مدوّناتهن التي تحوّلت لكتب. كانت الفكرة نوعًا من سحر غريب، قديم جدًا وغير مألوف، عصيّ عن التصديق: مدوّنة تتحول إلى كتاب ملموس في اليد نوقّع عليه ونثني صفحاته عند المقاطع الجميلة والمضحكة والتي تتحدث عنّا. كتاب نكتبه نحن ونؤلفه نحن ونقرأه نحن ويصدر باسمنا. كانت تجسيدًا لأن "أحلامي يمكنها أن تتحقق"، خرجت من بلورة الزمن السحرية لتخبرني عن مستقبلي: مدونتان تتحول كل منهما إلى كتاب، ويعرّفني الناس وأعرّف نفسي، على الأخص والأكثر أهمية، بأنني "كاتبة".

سأظل بعدها أنظر لكل شخص أراه في أرض الواقع ويمتلك مدوّنة قرأتها أو عرجت عليها بانبهار كبير، كأنما خرج من شاشة الكمبيوتر أمامي حالًا، أو كأنما الكتّاب الذين تتسم كتابتهم بالجمال والرهافة والصدق صعب أن يوجدوا في هذا العالم. أتمنى ألا أشفى من انبهاري أبدًا.

في أعوام لاحقة سأنام إلى جوار رضوى، وسأقضي ليلة عند فضل ونهى، وسيصرّ فضل في اليوم التالي على تمثيل دور العمدة وستّي هنيّة في نفس الوقت فنضحك بعنف ونخرج من تعاستنا. سأذهب لسانت كاترين ولا أطلع الجبل ولا يسخّف أصدقائي عن "تروحي سانت كاترين ومتطلعيش الجبل؟ خسارة"بل يدعونني في سلام غامر: أتجوّل في حديقة جوردن وصوت فريدة يشرح لي كل زرعة وتاريخها وميعاد سقياها، بحنان هائل يلفّني أكثر مما يفعل مع الزرع، فلا أنتبه لما تقول وأضيع في نبرات صوتها. سيزورني محمود وفريدة وطفلاهما في منزلي الجديد، يقف محمود في قلب المطبخ متناهي الصغر يقلّب اللحم المفروم، وبمهارة ساحر يضيف الطماطم والفلفل ويرشّ بهارات لم أعرف أنها لديّ، نغرق في الطعم الفاتن فيروح محمود في النوم بعد الغداء وننسحب أنا وفريدة للغرفة الأخرى نهمس عن الحياة في كاترين، وأدمغتنا مستلبة تمامًا من التوابل وجبن الموتزاريلا الذائب.

ستزورني نيفين في منزلي وتبدي إعجابًا بكل تفصيلة صغيرة فيه، حتى الحمّام الذي كان عاديًا جدًا أعجبها كثيرًا، انتباه للتفاصيل مرضٍ جدًا لي، أنا التي انتظرت بحماس طفلة في الابتدائي أن يثني الكبار على رسمتها المفضّلة بألوانها الجديدة. سأقف في نفس المطبخ أعدّ القهوة لتامر، وعندما أعود بها يسألني شادي ببراءة "معندكيش نعناع؟"فيمنعني التهذيب من التعبير عن غيظي "ما كنت جوّه!"

ستزورني إيمان لتعرّفني على طريقة جديدة للاهتمام بشعري، وتساعدني في إعداد طبخة غير مألوفة قرأت وصفتها على "سوبرماما"فأعددناها معًا، وفي نهاية اليوم أرسل لصديقاتي المحررّات هناك "الوصفة تحفة، تسلم إيديكم"فيضحكن كثيرًا لأنهن لم يؤلفنها، لكن يبتهجن.

سأقف كثيرًا على حافة المكتبة، الجملة التي أعبّر بها عن سرقتي لوقت أقضيه مع صفحتين أو ثلاث من كتاب ولا أستطيع إكماله لأني "أنا أتأخرت أنا عوّقت، يا نهار يا خيار!"وأضيع تمامًا مع محمود درويش ومريد البرغوثي، أتجوّل في "المحيط في نهاية الدرب"فيقشعر ظهري لما أقرؤه، ولا يفوتني الانتباه الدقيق لكل تفاصيل الترجمة الممتعة من هشام، المرضية جدًا لوسواسي القهري بالدقة اللغوية.

ستعطيني إيمان الأخرى، الطبيبة المتفانية، برواز صور به ساعة، تعتذر عنه وتقول إنه "طفولي جدًا"ولم تجد سواه، فأضحك بشدة وأقول ألا داعي للاعتذار: به دباديب صغيرة وقلوب في كل مكان، فلمّ الأسف؟ سأضع فيه قصاصة صغيرة لونها أصفر فاتح كتبت عليها "بالحب وحده"، وسألتقط صورة للبرواز والساعة تشير للرابعة والنصف، وأقول لنفسي كلما رأيتها "بقيت نصف ساعة لتصبح الخامسة عصرًا، الميعاد المفضّل لرحاب بسّام كما ذكرت في "أرز باللبن": ساعة النزول للعب في المصيف، وحفلات الشاي للأرنب في "أليس في بلاد العجائب"."

ستتصل بي رضوى من أمريكا، حيث تحضّر الماجستير، وتحكي لي بابتهاج عن صنعها للطعمية هناك. سيتصل بي كريم من أوروبا، سعيدًا ومرهقًا جدًا وصوته راقص، يحكي عن زواجه الحديث وعن مغادرته برنامج اللاجئين أخيرًا والسماح له بالدراسة، ويضطر لإنهاء المكالمة على الفور لأنه سيترّجل من القطار الذي يصل بلدين ببعضهما: يسكن في أحدهما ويدرس في الآخر. سيقول لي "فينك يا روز ما بتتصليش ليه؟"وتعقد لساني البهجة الحاضرة في صوته، ويشملني الامتنان.
.
يسألني أخي الأوسط "إنتي ليه مش زينا؟ ليه مبتحبيش الحاجات اللي بنحبها؟"فيمنعني ذهولي من الردّ، وأذهل لأنه يعرف ما يريد ويمكنه التعبير عنه! يعرف أنني مختلفة ولا يوافق، يظنني معدنًا قابلًا للتشكيل.

سأوّفق بمعجزة عظيمة للعثور على طبيب نفسي شاب، أذهب إليه مكسورة تمامًا وأقول له عبر جلسات كثيرة "أنا مختلفة، أريد أن أتغيّر"فيدهش لأنه لا يرى عيبًا فيّ يستدعي "التصليح. يردّ بدلًا عنه تامر "وهو الاختلاف وحش؟ الناس الطبيعية مملة"ويؤكد على تفرّدنا ومللهم كلما سمع أنني كتبت على زجاج النافذة بقلم الروج لأني لم أجد الألوان الفلوماستر، أو عندما يعرف ما يدور في ذهني في فترات انخفاض الضغط ولعب الديناصورات بعقلي البينج بونج، أو يقرر أن يتحدث بصوت بطوط، يسميه "دونالد داك"، ويفاجئني بتقليده، لكنه لا يفعلها كثيرًا لأني أنفجر في ضحك عنيف أعجز بعدها عن السير أو الجلوس أو الكلام.
.
تظل الأيام الحلوة قادمة، تعد بما لا يمكن التصريح به وإلا فقد دهشته، ومحاربة التعاسة قادرة على صنع الكثير، الكثير جدًا.
.
روز
القاهرة، 12-9-2018

مهمة الشِعر البطولية: بين حِبال الغسيل والأفيال الوردية

$
0
0
يا صديقي اسمعني أرجوك.
.
الساعة الآن الواحدة وأربعين دقيقة، صباحًا. لكن، رغم إرهاقي ويومي الطويل، أقرر ترك عصر مخي من أجل العمل والكتابة. هناك مقالة ترجمها "محمد الضبع"بعنوان "لن يموت الكاتب بداخلك أبدًا،"جاء فيها أن الفكرة التي لا تكتبها الآن، ستموت. سيولد غيرها لأنك كاتب، لكنها ستذهب ولن تعود.
هذا ما يحدث معي دائمًا: أستيقظ وعلى طرف لساني بيت شِعر، أكمل القصيدة قبل أن أفتح عيني. أنهض وأفطر وأشرب القهوة، هوب! تختفي الكلمات تمامًا.
من أجل هذا، قررت الكتابة، الآن.
.
يا صديقي، اسمعني أرجوك.
يرتبط هذا النداء، الرجاء، في ذهني بمدونة نوران "نور القمر"، التي توقفت عن الكتابة فيها منذ سنوات طويلة. صار لي فترة الآن متصالحة مع "مصادر الأشياء": من أين جاءت أصلًا. لماذا كنت أخجل منها؟ لأن هؤلاء الأصدقاء، مصادر تلك العبارات، توقفوا عن الكتابة منذ مدة، وصاروا يشعرون بالضيق أو الخجل أو يختفون أو يفضّلون "عدم الحديث عن هذا الأمر"كلما ذكّرت أحدهم بمدوّنته أو كتبه التي نشرها من قبل. من أجل هذا، كنت أشعر بالذنب والخجل أنا أيضًا: كأني مطالبة بتبرير مصادر الجمل التي أقتبسها، والتماهي مع الشعور الحالي لكتّابها.

لكن، مع نوبات اكتئابية عنيفة، وخروج غريب منها، صرت أكثر تحررًا: هذه الكلمات صارت لي، دخلت رأسي مرتبطة بلحظة معيّنة، أنا أملكها بنفس القدر الذي يملكونها به، ما لم أدّع صياغتها من الأصل. في ديوان "تحت شمس ذاكرة أخرى"، يصف علاء خالد المقابر الرومانية القديمة في الإسكندرية، ويأتي على ذِكر بركة ماء جوفي فوقها شاهد مستدير رخامي أبيض، يصفه بأنه "قمر على مستنقع"بين علامتي تنصيص. العبارة إشارة لرواية علاء الديب. لم يعتذر علاء عن اقتباسها أو يخجل منه، فقط وضعها بين علامات الترقيم المناسبة، كتحيّة مبجلة لرفيق حرب قديم.
.
الجملة التي بدأت بها هذه التدوينة، التي تبدو أفكارها الآن مبعثرة برأسي الذي يطالب بالنوم حالًا، تصالحت معها أخيرًا، إلى جانب "عزيزي معلوم الهوية: الحياة بقيت صعبة فشخ"التي أقولها كثيرًا جدًا، خاصة كلما خرجت من المنزل لأقضي مشوارًا أو أشتري متطلبات لي. اقتبسها من مدونة ريهام سعيد مصطفى، التي تحوّلت لاحقًا -في انتصار كبير- لكتاب "البنت اللي مليانة ديفوهات". تسللت إليّ أيضًا "صرت أرى أفيالًا وردية وهذا خطر"للصديق أحمد جمال.

وبمناسبة الحديث عن الأفيال الوردية: في محادثة جادة تمامًا بيني وبين صديقي المقرّب، قلت مازحة إن مديري السينما سيسمحون لأي شخص يدفع ثمن التذكرة بالدخول، حتى لو كان فيلًا ورديًا بجناحين. ردّ عليّ صديقي بأن عليهم في البداية قياس عمر الفيلة ومقارنتها بالتصنيف "PG13"، وطبعًا، عليهم تحديد نوع المخدّر الذي أتعاطاه لرؤيتهم بـ"جناحات". قلت له باستخفاف إن كل الناس يرون أفيالًا وردية، فصمت لثانية ثم سألني بقلق "ليه هو إنتي شايفاهم دلوقتي؟"
.

يا صديقي، الذي أنهكته معي باستطراد طويل يمكن الاستغناء عنه بسهولة، أنا أتغيّر.

في محادثتي السابقة معك، التدوينات السابقة هنا، ذكرت أنني سقطت فريسة لنوبة اكتئاب قوية جدًا وعنيفة للغاية، لم أكن آكل معها أو أشرب أو حتى أستحم. لم أغادر السرير طيلة أسبوعين عنيفين، والأسبوع الثالث حاولت الاستنجاد بالأصدقاء، محاولات يفصل بينها أيام طوال، حتى نجحت أخيرًا في الخروج والاستحمام ومقابلة الناس.

لكنّي عدت الآن لمسألة الانقطاع عن الأكل.
انعدمت شهيتي تمامًا، فلا أفكّر بالأكل أصلًا، ولا أجوع. ولدهشتي العظيمة: اكتشفت أنني لا أشرب.
مع العطش القهري المصابة به، كأثر جانبي وحيد للمنوّم الذي لا أنام دونه -ولا معاه والله، أحيانًا- أصبح من المستحيل تقريبًا إنهاء نصف لتر على الأقل من الماء كل ساعة. الأمر ليس كارثيًا لأني وصلت لمرحلة جيّدة من التحكم فيه، لكنني مؤخرًا: صرت أشعر بالعطش وأنكر على نفسي الماء.

هذا محزن جدًا.

مع توقف الأكل والشرب، تعددت الاعتلالات الصحية وتفاقمت. زرت الأطباء بالفعل وآخذ لها أدوية، الآن، لكن شهيتي ما زالت منعدمة.

وسط كل هذا، وسط طوفان الحزن وانعدام الهوية والمقصد والاتجاه، أنقذني الشِعر.
.
الصواب هو "ينقذني الشِعر"، فبعد زيارتي مؤخرًا لمعرض لبيع الكتب المستعملة، حيث قابلت الأصدقاء وشخطت في وجه صبية حاولت الوقوف أمامي للبحث عن شيكسبير، وأصبت بتوتر حادّ بامتداد الخروجة، وأمسكت بذراع صديقي بقوة طوال رحلة العودة بالمترو الذي أخافه كالجحيم، كطفلة ذهبت لكون موازٍ ولا تعرف كيف تتصرف بعيدًا عن الأرض.. أقول بعد كل هذا عدت بحصيلة هائلة من الكتب، غالبيتها دواوين.

وجدت نفسي، يومًا بعد الآخر، بعد انتهاء حصتي اليومية من النكد والشجار مع نفسي وبداخلي، وعندما ينام الجميع، أسهر لأقرأ. أسرح كثيرًا جدًا، وطويلًا، مع ما يكتبون.
يمنعني أرقي من النوم في مواعيد "آدمية"، ولما كنت قد جرّبت السهر أمام التلفزيون ووجدت برامجه وأفلامه في غاية السوء ومدعاة لإثارة الذعر أكثر، وجرّبت التقليب عبر الفيس بوك ووجدت أنه مثل التلفزيون تمامًا: به خوارزميات تصر على خوزقة من يتصفحه -أو أنا فقط- بعد منتصف الليل، قررت العودة لأقدم حيلة دفاعية لمواجهة الليل: الحكايات.

أنسى نفسي مع تركيبات لغوية شديدة الطرافة والحذق، في "مطر خفيف بالخارج"لإبراهيم داوود. قصة حصولي على ديوانه طريفة أيضًا وعجيبة، لكني لن أذكرها الآن، أريد أن أنام. لم أشعر بأنه يتعالى علينا باستخدامه تراكيب غير مطروقة، بل أعجبتني كثيرًا.
فجأة وجدت عقلي يعمل معها، وجدتني أتخيّل مكان الراوي والمروي عنه، أتخيل الموصوف والمشاعر. أوافقه في أشياء وأخالفه في أخرى، يشرد ذهني أحيانًا -كالآن- مطالبًا بالنوم فأقول له "قصيدة كمان، واحدة كمان والنبي."

يذكر الموت كثيرًا، فيصيبني طيف من النكد. أقول لنفسي "لا مش جايين نتنكد. دي مشاعره ومن حقه يعبّر عنها"فأقرؤها بخفة أكبر. أقول له "معلش"بداخلي وأكمل القراءة والتخيّل. أتجاهل المروحة الرأسية التي أصابت عنقي بتصلّب زيادة على تصلبه، والساعة التي تقترب من الفجر، وأسرح معه تمامًا.

يهزّني طرب غير منكور: لقد نجح شخص ما، كاتب ما، أخيرًا، في شغلي عن ذهني ومجرياته ومساوئ حياته التي لا تنتهي.
.
أنتهي من ذلك الديوان فأقفز إلى ما بعده: "تحت شمس ذاكرة أخرى"لعلاء خالد. مفعم بالحزن هذه المرة، تمامًا وجدًا، لم أوّفق كثيرًا في انتزاع نفسي من مشاعره.

حينها، لم أرغم نفسي على الخروج من هذه المشاعر. نعم أنا ممتلئة بها حتى الحافة والفيضان، لكني تركت لنفسي مطلق الحرية: عايزة تزعلي أكتر براحتك تمامًا. في نهاية الأمر، من أنا لأجادل مع نفسي قبيل الفجر؟ ح نهزّر؟

انتهى الديوان الذي تحيط به حكاية طريفة جدًا، ليس الآن طبعًا موعد حكيها، ووجدت نفسي أتصل بصديقي في اليوم التالي أحكي له.

وجدتني منطلقة كثيرًا: أحكي بنبرات قوية وعالية عن الديوانين، أقول له ما حدث وما شعرت به. ما لم أقله أنهما أنقذاني فعلًا، من تعاسات غير مبررة ولا لها أي تلاتين لازمة، وأنني لو تُركت وحدي في ذلك الوقت لخنقتني أفكاري المظلمة بقوة في عقلي الذي يرفض النوم. استفضت في الحكي، حتى عندما انتهيت، قال بنبرات متمهّلة إن كل هذا جميل جدًا، وأنني يجب أن أكتب عنه. هنا، انفتحت السماء قليلًا فعبرت نسمة هواء خريفية متخففة من الرطوبة، وشيئًا كثيرًا من الرحمة والنور.

أقول إنني وصلت لمرحلة زهدت فيها في الأكل والماء، وتوقف عقلي تمامًا عن رؤيتي كاتبة. صار حديثي لنفسي سلبيًا ومحتقرًا وكارهًا لكل ما أفعله. لم أدرك هذا في وقته، للأسف، وإن أدركه الآن.

فعندما أكّد لي أنني يمكنني الكتابة، وأن أخرج بشيء جميل من كل هذا.. فجأة شعرت بأن الخريف قد حلّ فعلًا، وأن حر الصيف الكئيب ربما يشارف على الانتهاء، وأنني جميلة، وأن هناك مستقبل، وليس حاضرًا ممتدًا من التعاسة، وأن بين خلايا مخي العصبية التي أجاهد لإنارتها، أفكار جميلة وعظيمة ومنيرة وحزينة ومغلوبة على أمرها، كلها تتوق للخروج والخلود بالكتابة، عنها.

أنهيت المكالمة معه وتوّجهت لموعدي مع الطبيب. عدت بعدها لأجد ولدًا قد تعرّفت إليه قبلها بيومين، يقيم ورشة لقراءة الشِعر.

آمنت مؤخرًا بأن الصدف تحدث لأن تطبيق الفيس بوك يتنصت علينا وبذلك يضع لنا إعلانات بها شيء مما قلناه. لكني لا أملك التطبيق أصلًا على الهاتف، وقصة عثوري على ذلك الولد مصادفة واقعية، ليست افتراضية أو تخضع للخوارزميات، وإن سرّع الإنترنت في حدوثها.
.
يا صديقي الذي أنهكه السهر:
عدت منذ كثير من الورشة، بعدما أنهيت بعض المشاوير. هناك مناطق تفتحت في عقلي، أردت مثلًا شراء كتاب جديد تحدث عنه الميّسر، وابتعت فعلًا عطرًا جديدًا مقلدّا كي لا تلتصق رائحته بثيابي فترة طويلة وتهيّج حساسيتي، وأدوات مكياج جديدة، وامتلكت أخيرًا تي شيرت قطني عليه ندبة البرق ونظارة أخونا في الإنسانية هاري جيمس بوتر. وضعت اليوم صباحًا صورة كنت التقطتها منذ عام بالضبط، عام إلا 13 يومًا، لوردة زهرية اللون نصف متفتحة. آمنت بنفسي أخيرًا بأنني يمكن أن أكون مصوّرة على درجة من الجودة، عالية لو صدّقت في قدراتي، وأنني ربما، ربما، أشبه تلك الوردة.
.

لا أدري إلام ستقودني خطواتي بعد ذلك، ماذا سيحدث في عقلي وأي مناطق تتفتح وأيها يثير ضيقي ويشعل توتري فأعجز أكثر عن النوم والأكل. لا أعرف ما سيحدث غدًا ولا بعد غد، لكن كل ما أعرفه: لو أمامي حبل سأتعلّق به بقوة، فربما فيه النجاة، ولو كان حبل غسيل.
.
روز
القاهرة، 16-9-2018

تدوينة غير دقيقة علميًا لا تعجب المحررين الدقيقين علميًا

$
0
0
أنا شخص لا يخرج كثيرًا، ولا يصلح للحياة في مصر.

تفسير الجملة الأولى هو نفسه الجملة الثانية، أي أنني لا أخرج كثيرًا لأن الحياة في مصر غير صالحة للبني آدمين، على إطلاقهم، إلا المنتفعين وولاد الوسخة. غالبًا ما يكون "المنتفعون"هم أنفسهم "ولاد الوسخة"، لكن، ما دمت صممت على كتابة تدوينة غير دقيقة وغير علمية، فلن ألتزم بأي قواعد تخضع للوصف العلمي الدقيق.

أنا لا أخرج كثيرًا لأني أعاني من القلق Anxiety، ومصابة للأسف بأحد اضطراباته الكبرى، الذي يضم -للأسف برضه- تحت عباءته آلاف الأعراض الصغرى والمزعجة جدًا جدًا، ولا يمكنني التحكم فيها.

فأنا مثلًا مصابة بالخوف من الأماكن المفتوحة Agoraphobia، رغم أن هذا كلام غير دقيق وغير علمي، لأنه لا يوجد اختبار محدد أو رسم مخ مثلًا، أو تجربة علمية تثبت إصابتي، أنا ككائن حيّ أريد الاحتفاظ بمخي بين أذنيّ أطول وقت ممكن، برُهاب الأماكن المفتوحة. وعلى الرغم من أني أعاني منه فعليًا، ولا أخرج من منزلي إلا نادرًا، بمعدّل لا يرضيني شخصيًا، فطالما لا يوجد تجربة أو اختبار، فلن يرضى المحرر العلمي الدقيق بهذا الوصف. نحمد الرب أنه على الأرجح لن يرى هذه التدوينة، وأنني في كل الأحوال، لن أتقاضى مالًا عليها.

ولأجل الحظ، ولحبّ مصر بنت الحبايب فيا، فإن "الأماكن المفتوحة"هي بالضرورة وبالحتمية أكثر الأماكن إثارة للقلق والمخاوف. في تعريفات الغربيين الكيوت غير المعجونين بالطين والخراء، يصفون الأماكن المفتوحة بالجبال مثلًا، أو السهول، أو لا مؤاخذة مصبات الأنهار.. عندهم طبيعة يا أخي! ويصفون كنوع من "تجنب المثيرات"بأن الواحد لا يطلع الجبال أو يزور السهول.. ما تزورش السهول! ما تزورش السهول! فاضيين لك؟ نسيب المماليك والإنجليز ونطلعّك جبال؟

لكن الأماكن المفتوحة قد تعني رصيف قهوة في حي كان راقيًا وح يشيلوه، اسمه مصر الجديدة.
للعزيز جدًا خالد أبو النجا فيلم اسمه "هليوبوليس"، صوّره في الكوربة ومصر الجديدة، أيام ما كان التصوير مسموحًا. الفيلم كئيب، وفيه هاني عادل الكئيب جدًا جدًا، وهذا سبب أدعى لعدم مشاهدته. لكني، وأنا جالسة على القهوة التي تحتل الرصيف، فهمت وتشبّعت بسبب الكآبة. يخرب بيتك يا مصر.

عندما نهضنا -أخيرًا!- للتمشية لأن ظهري أصرّ يصحّي الميتين، وانحرفنا في شارع جانبي أكثر هدوءًا، تذكرت على الفور لماذا لا أحب الجلوس على المقاهي. بسبب تربيتي المتحفظة، وهي بالضرورة الأكثر بضانًا، لم أجلس على مقهى قبل 2011، أي طوال 24 سنة من عمري. أما لماذا بعد 2011؟ لأني، على عكس الشائع تمامًا، استفدت جدًا والله من الثورة، لسبب مهم كالجحيم: طلع لي صوت، آه والله.

وعندما نبتت في حنجرتي اهتزازات، ببعض التحكم تتحوّل لكلمات، بدأت في التمرد، وعندما تمردت، قلت "وليه لأ؟"وبدأت تجريب الجلوس على المقاهي.

أما عن ماهية الأمر الأكثر بضانًا من التربية المتحفظة فهو الجلوس على المقاهي بالنسبة لشخص مصاب بالأجورافوبيا، وهذه المقارنة ليست دقيقة وبالقطع ليست علمية. فلو قلنا إن التربية المتحفظة هي السبب في خلق الخوف من التجارب الجديدة، فإن هذا لا يبرر الأجورافوبيا ما دام الأمر "جربته وعجبني أوي أوي"وبقالنا صوت بقا وبتاع. ولو قلت إن القلق أو رهاب الأماكن المفتوحة نتيجة للتربية المتحفظة فهذا لا يجعل الأول أكثر تبضينًا من الثانية، ولو تهت عزيزي القارئ فأنا أقصد هذا تمامًا، لأني أنوي والأمر لله كده أن أعمل محررة في القسم العلمي.

ولو افترضنا، بمدّ الخط على استقامته، أنني ما زلت أتحدث عن مقهى مصر الجديدة وعن النظرية التي توصلت إليها بعد 2011 عن الجلوس في المقاهي المنتشرة على الرصيف، فإنني مصيبة تمامًا. البيئة المفتوحة يا عزيزي، خطرة جدًا: تجلس متصوّرًا أنك في أمان الله، لكن لأنك على الرصيف -وفي مصر- فلا تأمن حدوث أي شيء. سيمرّ بك شحاذون كثر جدًا، لا تدري ماذا تفعل حيالهم، ولا تملك مالًا أساسًا وإلا كنت قعدت في كافيه، في التكييف. تذكّرت ما قرأته مرة، للصديق الجميل جدًا محمد عادل، أن في هولندا لا يوجد شحاذون. يوجد متشردون لكنهم مدمنين مثلًا للكحوليات أو المخدرات، ولهم مآوي تؤويهم كل ليلة وتقدم لهم طعامًا وعليهم الانصراف منها صباحًا. أما عن لماذا لا تحل الدولة مشكلتهم فهذا خارج نطاق معرفتي واهتمامي، أنا توقفت عند "لا يوجد شحاذون"وفقدت تركيزي تمامًا، مثلك.

وعلى نفس ميتين أم الرصيف، يمر مجذوب يقول أشياء لو ركّزت فيها ستجدها إما خطيرة جدًا أو أن رأسك مليئة بالأفلام أكثر من اللازم، خاصة أنه كان يردد أسماءً كانت في السلطة أو ما زالت، وهو سبب أدعى للهروب منه. لكن مروره مرعب، لا يمكنني إنكار هذا ولو ادعيت خلوّي من المشاعر، وهو أمر لا أدعيه لأني مصابة بالقلق، ولا يمكنني مناقضة المنطق العلمي أكثر من ذلك وإلا وصلت حدّ السفه.

أما ما حطمني أكثر من الضجيج، الذي أرهق أعصابي بالضرورة الحتمية الدقيقة جدًا، فكان وجود سيدة متقدمة في السن وتعجز عن الحركة وحدها. كانت جالسة على سلم العمارة التي تقع خلفي بالضبط، وتنادي على شخص ما ليساعدها على النهوض. كان صوتها مهزوزًا ومشروخًا وعاليًا جدًا ومؤلمًا جدًا. هناك شيء ما انشرخ داخلي لسماعه، خاصة أن هذا الشخص لم يجب على الفور، وأن صاحب المقهى وروّاده الدائمين على ما يبدو، أخذوا في السخرية منها. وسبب الشرخ أنني تذكرت جدتي، رحمها الله، في أيامها الأخيرة، وإحساس الذنب الذي ربما لم يبارحني حتى الآن ولا يبدو أنه سيفعل، رغم تأكيدي لنفسي أنني لم يكن بيدي شيء لأقدمه لها إلا فعلته.
هذه الذكرى، وهذا الربط، لم يأتيا لذهني على الفور، بل انزعجت وتشاغلت عنه وعن مشاعري، حتى تكرّم صديقي، الذي لن أقابله حتى يفنى البشر، وسمح لنا بأن نتمشى قليلًا.

بمجرد أن نهضنا وتركنا "منطقة الخطر"، ودخلنا في شوارع جانبية هادئة نسبيًا والله العظيم، تذكرت هذه النظرية. تذكرت أنني لو وضعت في مكان لا أستطيع فيه التحكم في عوامله الخارجية -أي خارجي أنا كشخص- أصاب بقلق عظيم، وأنني طيلة الجلسة كنت أخرج زجاجة المطهر الذي يعمل بلا صابون، والذي اشتريته خصيصًا لأن نسبته من الكحول عالية لأني ما بهزّرش والمصحف الشريف، أخرجه وأضع قليلًا على يدي وأفرك، أضع المزيد وأفرك، يجف فأتركه قليلًا ثم أضع ثانية وأفرك. كل هذا وأنا أتحدث مع صديقي أو أنصت لما يقوله، ثم انتبهت لما أفعل: يسيطر عليّ القلق بقسوة فتتحرك يداي لتهدئاني، ولما كنت مصابة بوسواس قهري متعلق بالنظافة -فيلمان في بروجرام واحد، اطلب أكتر أكيد فيه أكتر- فقد عمدت لتنظيف يدي بقوة، وغسل وجهي ورقبتي بالماء، ثم غسل يدي، ثم التجفيف بمنديل أظنه غير نظيف فأغسلهما بقوة وهكذا.

عندما فطنت لكل هذا، تطلعت إليه بكآبة وقلت "أتمنى لو شفيت من الوسواس القهري."
الحقيقة أنني أتمنى لو شفيت من كل هذا، من الاكتئاب والقلق واضطراب كرب ما بعد الصدمة. أتمنى لو نمت جيدًا وتركني الأرق، وأنه لو انزاح تتركني الكوابيس، وأنني لا أصبح وأنا مستيقظة عرضة لكل التصورات السيئة والنزاعات الداخلية العميقة، وأن أصدّق أن يدي نظيفة فعلًا والله العظيم، وأن أستطيع استخدام الوسادة الصغيرة التي أضعها خلف ظهري أمام المكتب، لأضعها خلف ظهري أيضًا لكن على السرير، دون أن أحارب نفسي وأحاول إقناعها إن "كده كتير والله"وأنها نظيفة، دون أن أغيّر أكياسها كل 3 أيام، وأغسل الوسادة نفسها كل فترة.

والحقيقة أنني، وقد كأبتك وتذكرت أحوالي فزادت كآبتي، لم أتمن أكثر من الآن، أن يكون عقلي قابلًا للتحكم فيه بواسطة الأدوية.
فأنا، يا عزيزي الذي ترك التدوينة ورحل، زيادة على كل هذا، لديّ مخ بتلافيف وخلايا عصبية شديدة البضان، لا تؤثر فيها الأدوية النفسية. لم أتمن أكثر من الآن، والتكرار يضعف التركيب، أن يكون هناك دواء آخذه فيقلّ كل هذا: غسل اليدين والعقل الذي لا يهدأ والتقاط أضعف الأصوات حولي والانزعاج منها وكراهية الروائح والخوف من منظر السماء ونصف القمر الذي كان مختبئًا خلف الشجر.

والدافع الآخر لارتكاب هذه الجريمة* أن لي عقلًا باطنًا يخزن كل شيء.

والعقل الباطن أو غير الواعي، الذي يثير حفيظة المحرر العلمي المهووس بالدقة، لأنه لا يمكن الاستدلال على وجوده: فتحت عقل واحد قبل كده ولاقيت فيه "عقل غير واعي"؟ له وزن بالجرام مثلًا أو الكيلو -في حالتي أنا، بالأطنان-؟ هل هناك ورقة علمية تثبت هذا الكلام أم أننا لا نعرف أصول الكتابة العلمية من الحديث حول البطيخ؟

هذا الجانب اللعوب الخبيث المراوغ من عقلي، يخزّن كل شيء، فيخرجه لي ويخرج لسانه -ويفعل أشياء أخرى عيب نذكرها لأن فيه بنات قاعدة- في صورة كوابيس مريعة، يمر منها بضع مشاهد فيستيقظ جزء من عقلي ويقول "هذا غير منطقي، لا بدّ أنني في كابوس"فأشعر أنا بالملل -داخل الكابوس- أن حياتي مملة فشخ لدرجة تكرار الكابوس وتكرار السيناريو والشخص الحكيم الذي يقول إن هذا كابوس. طبعًا بعده أستيقظ تمامًا وأفتح عيني لأقول لنفسي "بجد؟ Really؟"ولا أعود للنوم ثانية ولا أرتاح ولا جسمي يرتاح ولا حتى إنتا، إنتا ترتاح.

لأسباب كهذه كتابتي مبعثرة وغير منظمة كما قال لي صديقي اليوم، ولأسباب مماثلة تمامًا لا أخرج من البيت. لا أركب المترو، وعندما اضطررت اليوم بسبب عطل في الهاتف لركوب تاكسي، تاكسي عادي والله وبه عدّاد، أقنعت نفسي كثيرًا قبلها أن هذه هي الوسيلة الوحيدة للمرواح وأن بقائي في الشارع أكثر من هذا خطر. عندما وقفت على جانب الطريق لأوقف تاكسيًا، نبع صوت هلوع في رأسي ليقول "ولكننا لا نملك قوانين لنتبعها لنوقف تاكسيًا!"فقلت له أنني سأوكد على السائق أن يشغل العدّاد، حلو كده؟

سيخرج الصوت الهلوع عندما أضع رأسي على الوسادة، وسينكتم نَفَسي أكثر مما هو مكتوم بسبب إصابتي بالتهاب الشُعب بنت الوسخة الهوائية، وسأحلم بمتروهات مائعة تخرج من أنفاق مظلمة لتجري وراء بعضها وتجري ورائي، لكن الكابوس سيطول هذه المرة قبل أن يخرج لي الصوت الحكيم الملول ليذكّرني بأن أستيقظ الآن، لأن حياتي لا تحتمل المزيد من الملل.

وهذه الأصوات، يا عزيزي المكمل حتى النهاية، ليس لها كيانات واضحة ولا بطاقات تحديد هوية، ولا يمكنها استخراج جواز سفر أو الوقوف على الحدود مطالبة بحق العبور أو في طابور سفارة لرؤية ابن سيتزوّج قريبًا. هذه الأصوات مائعة تمامًا وداخل رأسي وحده، وبهذا تضعني في موقف محرج للغاية وسخيف حينما أحاول تفسيرها بأشياء علمية دقيقة، لها أوراق بحثية تدلّ "على الكلام ده".

_____________
* ليس هنا دوافع ولا جرائم، لكني لم أعرف بما أبدأ الجملة.

لم أَزل منصور ولم أُهزم

$
0
0
لأني مش ضحية ولا مهزومة ولا شايفة نفسي ضحية أو مهزومة، أنا منتصرة جدًا وتمامًا.
.
النهاردة، عملت أشعة / تصوير بالرنين المغناطيسي، ودي كانت أسوأ تجربة عدّيت بيها لحد دلوقتي.

مكنتش Claustrophobic أو خايفة من الأماكن المغلقة، ولا الصوت ضايقني. كان فيه خبطات هي اللي بتصدر الصوت ده، هي قوى الشر العظمى، أشباح كل الحاجات السيئة اللي عملتها، طلعت وهاجمتني.

كل خبطة كانت بتطرق بعنف على عمودي الفقري فا يتردد الألم في رجليا، مصدر القلق الأولي ومدعاة التصوير بالرنين. موجة ورا التانية، موجات من عنف متلاحق، الألم بيتصاعد مرة ورا التانية، ما بيخفش ولا بيهدا، بتتصاعد حدّته لمستويات ما تخيلتش إنها موجودة في الجسم البشري ولا إني أقدر أستحملها.

في البداية كنت حاسة بملل، حاولت أسلّي نفسي بإني أعدد الهوكوركسز اللي خبّى فولدمورت فيها قطع روحه، لاقيتني فاكراها كلها وقلتها بسرعة، بس لما جيت أفتكر هاري حطمّها بإيه معرفتش. وصلت في سرحاني لنهاية الجزء السادس، لما سنيب قتل دمبلدور، وهاري طلع يجري وراه وبيقول له "اقتلني أنا كمان"ولما مقتلوش صرخ فيه "إنتا جبان.. إنتا أجبن حد شفته في حياتي."

هاري كان وصل لمرحلة من الألم مش قادر يستحملها، بعد ما اتقتل دمبلدور قدامه ومقدرش يعمل له حاجة، كان عايز حياته تنتهي دلوقتي حالًا.

هنا انتبهت إلى إن تنفسي صعب شوية، وإن الألم أعنف من اللازم. حاولت أنظّم أنفاسي معرفتش، أسيطر طيب على مشاعري؟ معرفتش. افتكرت أول إمبارح، لما كنت باقول لطبيبي النفسي إنه كفاية كده، كفاية ع الحياة دي، حياة مفيهاش أي سبب للبهجة ولا أي داعي للاستمرار، مفيش أي معنى في إني أحاول تاني لأني ح أقع تاني وأتهزم تاني وأتضرب في مشاعري وأفكاري تاني، وأنا معادش فيا حيل. قلت له إن الحياة دي من أسوأ ما يمكن، أسوأ ما عدّى عليا ومش عايزاها أكتر من كده ومش عايزاها تاني.

الألم زاد، وابتديت أعيّط ببكا مكتوم. أي حركة كانت ح تبوّظ شغل الجهاز وممكن يتعاد التصوير تاني وأنا مش ناقصة ذرة ألم إضافية.

مقدار عنف الألم بقا لا يُحتمل، قعدت أقول لنفسي "ح أستحمل أكتر من كده إيه؟"ومكانش فيه ساعة ومعرفش فات قد إيه من النص ساعة تصوير. ابتدت مشاهد مظلمة جدًا تندفع من جوايا، حاجات مفتكرش إني عشتها وصرخات ما افتكرش إني سمعتها ولا أصدرتها قبل كده، طلعت من جوايا.. حتت ضلمة جدًا مكنتش أعرف إنها موجودة، فجأة احتلت الساحة، وهجمت عليا. خفت منها جدًا، خفت من كل السواد اللي متخزن جوّه عقلي ده، وقلت لنفسي إن استمرار العلاج النفسي مسألة حياة أو موت، لأني مش عايزة أشوف الصور دي تاني، عايزة أخرّجها وأطلق سراحها ومترجعليش تاني.
مع الدموع اللي خنقتني وموجات الألم العنيفة، وإيدي اللي ابتدت تترعش وأنفاسي القصيرة المتلاحقة، فكّرت "أنا عايزة أموت بقا، دلوقتي حالًا."

إيه الخرا ده؟ إيه اللي باقوله ده؟ أنا مش شخص مهزوم، أنا منتصرة، أنا مش ضحية. أنا بخوض كل تجاربي للآخر وبانتصر فيها حتى لو مجاتش النتيجة على هوايا، النصر ساعتها بيبقى إني خضتها للآخر وكملتها حتى مع كل الظروف اللي بتقول إني ح أفشل فيها. أنا مش فاشلة، أنا مش فاشلة، أنا مش فاشلة، أنا مش ضحية ولا مهزومة، أنا منتصرة جدًا.

مقداميش غير حلّين مفيش غيرهم: يا أصوّت دلوقتي وأقول لهم يقفلوا الجهاز والتجربة تفشل، التصوير يفشل ومعرفش إيه سبب الألم العنيف المفاجئ اللي بييجي لرجلي اليمين بشكل متكرر، وأروّح البيت مهزومة تمامًا وحاسة من جوايا إني فاشلة، يا أصبر وأستحمل وأكمل التجربة لنهايتها وأحصل على نتيجة التصوير وأعالج سبب الآلام والالتهابات وضعف العضلات وأستريح بقا. أنا مش ح أقعد القعدة دي تاني، يبقى أصبر وأسكت خالص لحد نهاية التصوير. أنا ما بنسحبش من معاركي، أنا باخوض معاركي الخاصة وبافضل فيها لنهايتها وأستحملها وأفضل أحارب، لأني مش مهزومة ولا انهزامية ولا فاشلة. أنا منتصرة.

عند الفكرة دي بالضبط. التصوير خلص.
.
نص ساعة من التعذيب النفسي والجسماني، نص ساعة من آلام ملهاش أول من آخر، لو كانت رجلي بتتخلع وأنا صاحية معتقدش إني كنت ح أحس بمقدار الوجع ده كله. يمكن دي مبالغة بس الألم ده متصورتش إنه موجود في البني آدمين أو ممكن يحصل.

إيمان قالت لي إنه مش معتاد إن التصوير بالرنين المغناطيسي يؤلم للدرجة دي، بالعكس المفروض إنه مش مؤلم خالص، ووعدتني تسأل وتبحث في الموضوع ده، وده يمكن أكتر شيء بحبه في إيمان بعد تعاطفها الإنساني معايا: إنها بتدوّر ع المعلومة.
أنا عايزة أعرف إيه المشكلة وأعالجها لأن الاستسلام مش خيار متاح ولا هو ممكن ولا ح يحصل، ببساطة.

د. هاني قال لي إنه طبيعي إني أحس بالتعاسة والكآبة دي كلها، اكتئابي مبرر تمامًا بل كان لازم يحصل وإلا يبقى فيه خلل. وقال إني "خضت حروبًا كثيرة"بالفصحى كده، وإني انتصرت في معظمها، وإن مشواري مش قليل ولا سهل، وإن، وده الأهم: مفيش قدامي خيار آخر إلا إني أكمل، للآخر.
.
أنا ممتنة جدًا للناس اللي ربنا حطهم في سكتّي.
.
النهاردة الصبح وأنا بافوق من النوم قلت لنفسي "أنا ربنا شال مني حاجات كتير، وابتلاني بظروف وناس وبلد في منتهى السوء، وعيوب خلقية مسببة لي مشاكل كبيرة جدًا، بس إداني في المقابل يمكن أعظم هدية في الوجود كله: الناس الحلوة."
نعمة الدكاترة اللي بتفهم وبتحس وبتحاول تخفف ألم المريض، والأصدقاء اللي بيسمعوا وبيتعاطفوا وبيفهموا جدًا، تفوق أي شيء آخر.

أوّل ما روّحت وأخدت المسكّن ودش ساخن جدًا عشان العضلات تفك، وهديت كتير، كلمت أصحابي. قلت لهم التجربة خلصت بس أنا حابة أحكي عنها، كمية الألم الرهيبة  دي مينفعش تمر من غير حكي. أنا كويسة جدًا دلوقتي، بالعكس قعدت أضحك معاهم جدًا ونتكلم في الكتب والترجمات السيئة وطرق صناعة القهوة بوشّ لأننا كبرنا بقا وعيب ميصحش لحد دلوقتي "أعمل"قهوة من غير وشّ. بس عشان أوصل لجزئية إني أكلمهم وأعيط شوية وأضحك شوية، اشتغلت على نفسي كتير جدًا. آمنت إن محدش ح ينقذني غيري وإن محدش ح يخوض معاركي أنا غيري وإني لازم أنتصر فيها، ولما انتصرت، حكيت لهم عنها.

أنا باسمح للضعف البشري اللي جوايا إنه يخرج، صحيح مش في كل وقت باعبّر عن مشاعري لكن بحاول ما أكتمش نفسي أو أبطّلها أو أقمعها، كفاية قمع بقا.. باكلمهم وأقول لهم "عندي تجربة وحشة حصلت لازم أحكيها، أنا كويسة جدًا دلوقتي وهيا خلصت وأنا في حالة جيدة جدًا، لكن لازم أحكيها."لأني لو سبتها جوايا ح تتراكم وتتحول لمناطق مظلمة جدًا تطلع لي في أوقات غير متوقعة ولا مرغوبة، وأنا مش عايزة كده، كفاية كوابيسي اللي بحاول أتصالح معاها.

 من أكتر المفاهيم اللي باحمد ربنا إن د. هاني وصلّها لي –بعد مجهود جبار- إني لازم يبقى لي شبكة دعم من ناس حلوة جدًا في حياتي، أقدر ألجأ لهم في وقت الحوجة، وعلى طول معاهم في أوقات الضحك والفرفشة والفرجة على الأفلام وعزومات الغدا وفناجين القهوة.
.
"قولوا للقلقان ما يقلقشي
دولة الأحلام ما تقلقشي."
.
اللي أنقذ هاري بوتر من موت محقق في كل مرة، مش بس قوة إرادته وانتصاره للخير ضد الشر، أصحابه. من غير أصحابه كان زمانه مات من أول مواجهة. بعد 19 سنة، هاري بيقول لابنه الصغير "إنتا واخد اسم سفيروس، وهو أشجع راجل شفته في حياتي."

لو كان سنيب شرير فعلًا أو سمح لحد تاني إنه يقتل هاري، ليلة مقتل دمبلدور، مكانش هاري كمّل الحكاية للآخر وانتصر على فولدمورت. مكانتش قصته ح تكتمل، وأنا مش عايزة قصتي تنقطع، مبحبش النهايات المبتورة، بالعكس، لازم نهاية تامة ومكتملة، ومنتصرة.
.
أيوة أنا باكتب الكلام ده عشان أمدح في نفسي، إني استحملت ألم لا يطاق، لآخره، عشان أحقق هدف قوي جدًا ومطلوب جدًا، واحتمال كبير يسهّل لي حياتي بعد كده. أنا شفت حاجات سيئة كتير وقلت لنفسي واتقال لي كلام سيئ جدًا، أكتر من اللازم، فمش أقل إني أمدح فيا وفي تجربتي وقوة تحمّلي ومقدرتي على تنظيم مشاعري وأفكاري بحيث ما تهزمنيش. أنا اتهزمت مرة ومش ح أسمح لنفسي إن ده يحصل تاني، Not if I can help it.

وأنا باحمد ربنا على نِعمه الحلوة، والناس الحلوة اللي مش بس بيساندوني، لأ دول كمان بيحاولوا قدر الإمكان إنهم يحسّنوا حياتهم في كل النواحي، لأن اللي عندهم معارك أكتر من اللازم بيخوضوها في نفس الوقت ما بيقدروش يسندوا الآخرين، ولا نفسهم في نهاية الأمر.

يمكن تجاربي مكررة وكلامي معاد وشبه اللي قبله، بس بالنسبة لي: دي موقعة جديدة أنا انتصرت فيها، ولازم أفخر بنفسي وأحتفل بيها.

"صوموا وقولوا آمنّا
كونوا قلوب مطمئنة
النصر فينا ومنّا."
فؤاد حدّاد – حيّوا أهل الشام.
.
روز
24-9-2018

محاولات حثيثة لمواجهة الخوف

$
0
0
اعترفت لنفسي النهاردة الصبح إني خايفة.

بعد ما غسلت وشي وسناني، رجعت على سرير أخويا اللي بقيت محتلاه مؤخرًا، لأنه مريح أكتر من سريري، عشان آخد الدوا. بعد ما أخدته ريّحت لأن ضهري واجعني جدًا. كنت بافكّر إنه إذا كان "مشوار"الحمّام مرهق لضهري جدًا، يبقى أنا حالتي تعسة والأمر لله من قبل ومن بعد.

كنت بافكّر إن فيه جملة ناقصة، جملة ما اتقالتش، شيء استخبى. بعد برهة تركيز ومحاولة إني أجيب في دماغي الأحداث عشان أدوّر فين مكان الجملة المستخبية، اكتشفتها: إمبارح ونوبة الصداع النصفي بتضرب في نافوخي، وبتوجع فشخ، كنت خايفة.

يمكن ده أسوأ إحساس بعد ألم الصداع النصفي مباشرة. في البداية لما البرق بيشق دماغي، بالنص تمامًا، مفيش غير الألم. بعدها بينحسر شوية، من رحمة ربنا، وباخد الدوا، ومع بعض الهدوء والظلام الأمور بتهدا وتخف. بس إمبارح كنت برة، مفيش هدوء ولا ظلام. كنت خايفة جدًا.

معرفش حقيقي كنت خايفة من إيه. أنا كنت مغمضة عيني وماسكة دماغي ومتخشبة مش قادرة أتحرك، وكل الأصحاب حواليا بيتكلموا وبيرغوا. يمكن خفت إني أتنسى؟ معرفش والله. بس بعد فترة شاورت لشادي إنه يوطّي صوته شوية عشان الصداع يروح. سكتوا كلهم واتخضوا تقريبًا، أو هذا ما تصوّرته، فأنا خفت جدًا جدًا.

بعد ما أخدت الدوا والصداع قلّ شوية، ابتديت أتكلم معاهم. معظم الناس قامت مشيت إلا جمال وتامر. قعدنا نتكلم شوية، وجمال شرح لي فلسفة بيترسون. كان نص دماغي مش شغال وبالتالي مش فاهمة أوي هو بيتكلم عن إيه، بس فضلت أتكلم وأقول له يوّضح أكتر ويكمل كلامه. كنت خايفة من الصمت.

البرق رجع يشق دماغي تاني، سكتّ شوية، تامر قال لي غمضي عينك دقيقتين. قلت له طب عدّ لي! مينفعش دقيقتين و15 ثانية، لأ هما 120 ثانية بالضبط! عدّ لي!
بص للسما وقعد يدعي عليا :D
أنا فطست من الضحك ساعتها، بالرغم من إن دماغي واجعاني، بس ضحكت من رد فعله. الحقيقة أنا كنت خايفة أغمض عيني، فشخ.

كان ح يبقى سخيف ولا منطقي ومحرج جدًا لو كنت طلبت من حدّ إنه يمسك إيدي؟

الحقيقة إني باكره الأمراض والآلام، مش معتبراها ضعف، أنا بس باكره الألم واللي بيعمله فيا. نوبات الصداع النصفي لا يمكن التحكم فيها، وأي حاجة، فعليًا أي حاجة، ممكن تحفزّها. أنا أصريت نروح مكان بعيد، خارج القاهرة، عشان واسع وهادي والناس مش قاعدة فوق بعض زي كل حتة تانية. كان فيه اعتراضات قوية عشان بعيد، والحقيقة إن الاعتراضات دي تعبت روحي فعلًا، وكانت قبل الخروجة بيومين بس. لكن رغم تعب الروح فإحنا اتقابلنا وقعدنا وضحكنا فشخ وانبسطنا، وأكلنا كيك وساندوتشات خضار مشوي وحاجات دلع بقا. مش عايزة أتخيّل لو كنا قعدنا في أي مكان دوشة جدًا، أي كافيه بيصرّ على تشغيل مزيكا جوّه وهو ضيق أساسا والناس قاعدة على حجرنا والدوشة لا تحتمل، ودخان السجاير بيسعى حثيثًا إنه يقتل ما تبقى من قدرتي على التحمّل. مش عايزة أتخيّل.

كان فيه بنت صغيرة قاعدة معانا، لسه داخلة الجامعة مبقالهاش أسبوع. شافتني قبل كده، بس الحقيقة برضه محبيتش إنها تشوفني وأنا مرهقة جدًا كده ورجلي واجعاني وبامشي بالعافية، وكمان صداع؟ لأ كتير كده، برستيجي ما يسمحش.

بس الحقيقة التانية إني باهرب من الاعتراف بالخوف.

هو آخر إحساس بييجي لي بالليل وأول حاجة باحسها أول ما أصحى من النوم. بأخّر مرواحي للسرير قدر الإمكان لأني خايفة، مش عايزة أقوم من قدام الكمبيوتر أو التلفزيون لأني خايفة فشخ. باقول لنفسي إني المفروض أتعامل مع مشاعري أحسن من كده، أشوفها جاية منين وأعالجها، بقيت باعرف أكلّمني دلوقتي، وأقنعني بحاجات وأظبط الدنيا شوية. لكني باهرب، والهروب ده من أسوأ الأشياء وأحطّها في التعامل مع المشاعر، لأنه بيكبّرها، بيديها حجم أكبر بكتيييير مما لها، وبيبهدلني معاها.

أنا معرفش أنا خايفة من إيه، حقيقي. لما باحط السماعات الكبيرة فوق وداني، باسمع المزيكا بصوت مش عالي أوي، لكن أي صوت، ولو كان الحمامة برة الشباك، بيرعبني جدًا. ليه؟ إيه الذكرى المرتبطة عندي بالسماعات؟ معرفش. طب إيه اللي حصل؟ معرفش. طب أعمل إيه لمواجهتها؟ للأسف برضه معرفش.

إمبارح كنا بنتكلم عن الأدوية النفسية، اللي معنديش مشكلة دلوقتي في الكلام عنها أو اللي عملته فيا، لأني مبقيتش شايفة نفسي ضحية. بس جمال اللي أول مرة يقعد معايا رغم إنه يعرفني من سنين طويلة، كان في عينيه نظرة أسف أو إشفاق، اللي باكرهها جدًا. أنا مش زعلانة يا جمال إن كل ده حصل، رغم إن أحدها كان ح يقتلني فعلًا، بس تأثيراتها كلها راحت دلوقتي، ومبقيتش زعلانة.

Yet again, nothing is fun about them, at all.

بس اللي أعرفه إن التدوينة دي يمكن أول الطريق للمواجهة، إني باكتب وباعترف إنه موجود، باكتب على الملأ كمان ومعنديش مانع من كده. في "رسايل الأخوية"بيني وبين أصدقائي المقربين جدًا، كتبت لهم عنه، في أولها خالص، وبعد كده بطّلت لأني زهقت مش لأن الخوف مشي. لحد دلوقتي باصحى من النوم على مذبحة للمخدات: بانام وحواليا مخدات كتير لأن مفاصلي قررت إعلان العصيان، لكن باصحى وهما مرميين في كل حتة فوق وتحت وعلى سرير أختي أحيانًا! باشلّت جامد والكوابيس مش راحماني وبافتح عيني خايفة لا يكون كتبت حاجة تضايق حد قبل ما أنام، أو عملت مصيبة تعكّر حياة حد. باكلّم نفسي إني معملتش حاجة من هذا القبيل وحرام كده القلق ده، باقتنع فعلًا وباقوم أشوف الدنيا فيها إيه، والخوف بينزاح شوية.

أنا عايزة أواجهه عشان أخلص منه، عايزاه يمشي وما يجيش تاني، أو لما ييجي أكون مستعدة له وعارفة أهدّيه أو أصاحبه أو أقلل من فزعه، يمكن بالتبعية فزعي يقلّ.
.
روز
30-9-2018

لديّ سفينة فضاء على مكتبي، وكعك بالشوكولاتة، وأصدقاء رائعون جدًا

$
0
0
انتهيت من خبز كعكة. كتبت هذه التدوينة في رأسي مباشرة قبل أن أنظر لهاتفي المحمول وأجد اللمبة الخضراء تومض، علامة وصول رسالة جديدة على الماسنجر، فتحوّلت بشكل درامي من تدوينة حزينة ومليئة بخيبة الأمل، إلى شيء أقل حزنًا وخيبة.

بشكل ما، صارت "عملت كيكة"إلى "خبزت كعكة". الحقيقة أنني لا أحب التقعر في التعريب. مالها الكيكة؟ والحقيقة الأخرى، أن يومي كان محبطًا للغاية، والمشاعر السيئة تغمره وتطفح من جوانبه، بداية من الكابوس الذي لا أذكره لكن يخيفني بشدة حتى الآن، مرورًا بمحاولة -للمرة الثانية- توضيب اللاب توب وحقيبتي ثم الخروج للعمل بأحد مساحات العمل المشترك، لكن لم أستطع بسبب انخفاض ضغطي المريع، نهاية بشجار عائلي عنيف.

نسيت، وأنا أنسى أكثر مما أشرب الماء، أنني لو بذلت مجهودًا عنيفًا في يوم، سأظل في الفراش ليومين قادمين بسبب انخفاض الضغط، حتى لو تناولت كل الأدوية والقهوة والكل كليلة. نتيجة ذلك، لم أستطع الخروج اليوم ولا الحفاظ على رأسي فوق كتفيّ، وليس فوق الوسادة.

أمس، حاولت الذهاب لأول ميعاد لديّ في العلاج الطبيعي. أخطأت مرتين: مرة حينما أسأت تقدير الوقت، فاستغرقت في الاستحمام فترة أطول من اللازم، والثانية حينما طلبت من أخي الصغير توصيلي.

ركبنا السيارة، أخطأ في طلعة الدائري فانحشرنا في زحام شديد الكآبة، فقط لنرجع لطريقنا. هنا، اكتشف أخي -طبعًا، ما لازم!- أن عداد البنزين يقترب من الصفر واللمبة مضاءة بأصفر متقطع ينذر بكارثة. استغرقنا نصف ساعة فقط لنخرج من الزحام ولنجد بنزينة على الدائري. ضاع عليّ الميعاد، اتصلت فأخبروني بأن التأخير ليس في صالحي، ولأحجز ميعادًا آخر.

بعدما أغلقت الخط، أخبرت أخي بأنني سأصمت قليلًا لأهضم إحباطي، لأنني لو تحدثت الآن سأقول أشياء تجرح. أردت الصراخ في وجهه أنه المخطئ، أخذ تفريعة خاطئة وهو الذي يقطع الدائري يوميًا في طريقه للكلية ولتوصيل أختي للعمل، ولم ينتبه لنفاد البنزين. كيف لا ينتبه لشيء مهم كهذا؟ كيف يسمح لنفسه؟

غير أني أدركت أن الخطأ يقع بالكامل عليّ، وأن الموقف سيمرّ وسينتهي، ما زلنا أحياء وقطعة واحدة كما يقول الإنجليز، لكن ما سأقوله سيظل في ذهنه حاضرًا ربما للأبد، وأنا لا أريده أن يتذكرني صارخة في وجهه غير قادرة على التحكم في مشاعري ولا التعامل مع إحباطي. بكيت في صمت وجففت دموعي، أردت أن أبدأ العلاج الطبيعي أمس لأن الألم أكبر من قدرتي على التحمل، لكن هذا ليس خطأه.

طلبت منه أن يذهب بي لآيكيا، لم أرد أن أعود للمنزل بكل كمية الإحباط تلك، ستخرج في وجه أمي على الأغلب.

وصلت، دعاني على الغداء، بمجرد جلوسنا صرنا نتحدث بطبيعية ونضحك أيضًا، أخذ يحكي لي قصصًا هبلة تمامًا ونضحك منها، ذهبت لماكينة القهوة ولم أفهم فيها شيئًا، تعاملت على ما قُسُم وعدت أحكي له ويسخر منّي، سخرية طفولية جدًا، ثم جاء بقطعة تشيز كيك وراح يتساءل عن سرّ تسميتها هكذا. هنا أعلنت أنني أخذت كفايتي من الهبل واسكت بقا يا ابني، ولحسن حظي وصلته مكالمة من أختي كي يوصلها للمنزل. تركني -الحمد لله!- ومضى.

فكّرت أنني لم استكشف آيكيا وحدي من قبل. من ساعة ما فتح فرعه في مصر، وأنا أذهب إليه مع آخرين، يصبغون اليوم بعصبيتهم وتعجّلهم، مرغمة أتبعهم للأماكن التي يريدون التسوّق فيها، بينما أنا لا أريد، ودائمًا ظهري يؤلمني، وخطوتي أبطأ من خطوتهم. فكّرت أن مكانًا لطيفًا مثله لا يستحق أن يحاط بكل تلك المشاعر السلبية! انبسطت للفرصة، ووضعت ميزانية صغيرة جدًا لا أتجاوزها، واتفقت مع نفسي أنني لن أشتري شيئًا لا أحتاج إليه.. عيب كبرنا خلاص على المسألة دي.

تجوّلت قليلًا في الدور العلوي، أطول من اللازم في الواقع كي أكتشف أنه كله للأثاث، والأشياء الحلوة الصغيرة التي أحبها في آيكيا موجودة بالأسفل! استغرق مني هذا الإدراك ساعتين، أجلس أكثر مما أمشي، سمعت فيها تسجيلات صوتية أرسلتها لي العزيزة جدًا منى، من بريطانيا، وكانت تتساءل عن الاحتباس الحراري في نفس الوقت الذي تخنقني فيه الرطوبة لأن التكييفات في المكان ليست قوية جدًا! لا يوجد وقت غير مناسب للحديث عن الاحتباس، في كل وقت نحن محبوسون أو نعاني من شيء ما مفرط الرداءة بسببه، بيتك ومطرحك يا روح أمك، خش اقعد رحنا كلنا في داهية خلاص.

نزلت للدور السفلي، تجوّلت قليلًا قبل أن أعلن لنفسي أن ظهري لم يعد يتحمّل. المشكلة أن أمامي طريق طويل حتى الكاشير، ثم الخروج والعودة للمنزل، وأنني أردت الذهاب للحمّام بشدة. وصلت لركن الإضاءة فتلهّيت عن ألم ظهري وساقي: لفت انتباهي مصباح مكتب صغير جدًا وأنيق. توّجهت إليه وعاينته من كل النواحي، ثم أعلنت لنفسي أنه مناسب لولا لونه: أبيض تقليدي جدًا وغير مبتكر، أو زهري فاقع لا يليق بفتيات الحضانة حتى. كان سعره مناسبًا إلى حدٍ ما، لكن اللون؟ أدرت ظهري له لأني لم أعد في الحضانة، وهنا رأيته.

مصباح خفيف جدًا، قبعة من البلاستيك ترتكز على 3 قوائم من البلاستيك أيضًا. قلت لنفسي إن شكله وحش جدًا وغير مبتكر، وإن جذبني فيه سعره: نصف ثمن المصباح الكلاسيكي الذي لا يجدون له ألوانًا ملائمة.

ذهبت لأجلس على مقربة، من الجميل أنهم يضعون مقاعد في كل مكان تقريبًا، هي للعرض وعليها السعر والمواصفات، لكن يمكنك بسهولة الجلوس عليها لترييح ظهرك مثلًا. أذكر أنني منذ عامين ذهبت لآيكيا مع أختي التي تركتني وذهبت لتبحث عن شيء ما، وأنا من إرهاقي جلست على سلّم صغير داخل أحد الحمّامات المعروضة. لمحت فتاة ترتدي تي شيرت آيكيا قادمة، فنهضت مرتبكة أداري أثر جريمتي. اقتربت مني مبتسمة وقالت "قمتي ليه؟ خليكي قاعدة، أجيب لك كرسي مريح أكتر؟"فشكرتها مرتبكة أكثر ومضت. سيظل هذا الموقف مطبوعًا بداخلي تحت عنوان "نستاهل من الحياة أكتر من كده والله يا روز."

استغليت فرصة جلوسي وفتحت الموبايل، كنت أحادث صديقنا ياسر، الذي أرهق أعصابي بأسئلة عجيبة ثم اكتشفت أن هذه هي طريقته في الهزار. كان يتحدث عن ابنته، زعيمة العصابتين ذات الخمس سنوات -البنت وكلتا العصابتين- عندما أغلقت الهاتف والتفتّ نحو المصباح. كان معلّقًا تحت لافتة تعلن سعره المخفّض المذهل، ورأيته: سفينة فضاء!

عدت له مجددًا، تأكدت من قوائمه، وجدتها بلاستيك جيّد، صالحة أكثر للتعامل معي أنا التي أسقط الأشياء دائمًا وكثيرًا، وأنها بشيء من التلوين والتزيين ستصبح سفينة فضاء حقيقية. أخذتها، وفي طريقي للخارج وجدت حمّامًا لطيفًا مختبئًا إلى جوار ركن النباتات، أخذت نبتة ظل لطيفة جدًا عندما خرجت منه، وذهبت لأحاسب. في طريق العودة سمعت 15 دقيقة من كتاب "ميثولوجيا أهل الشمال"بصوت نيل جايمان، وسرحت تمامًا لدرجة أنني خفت من الليل عندما ذكر "الأضواء الشمالية."

اليوم، وبعدما عجزت عن الخروج أو حتى إبقاء رأسي في وضع الجلوس، توجهت لمكتبي وفككت المصباح. حاولت تلوينه، وإن بحذر: لا أريد ألوانًا تثبت للأبد لأني أملّ بسرعة، أريد شيئًا سهل المحو لأرسم غيره. جرّبت كل الألوان، والمفاجأة: كلها سهلة المسح بأستيكة عادية! هنا رسمت كل شيء عليه، أخفيت الرسومات الأكثر جموحًا وصوّرت الجزء الرصين منه. جدير بالذِكر أنني علّقت عليه خيطًا من الخرز والفراشات والوردات الزجاجية، كنت لضمته من عدة سنوات ونسيته في قاع صندوق "الأعمال الفنية."

بعد شجار وصراخ، أدركت للمرة المليون أن لا مكان لي هنا، لا أحد سيتغير ولو أردت النجاة بحياتي فعلًا عليّ الرحيل. قلت لنفسي إن الأمر لم يعد يحتمل وعليّ العمل فعلًا، لا وقت لأضيعه مع الإحساس بخيبة الأمل وانخفاض الضغط وقلة القيمة وأنني لا شيء، على الدوام. لا وقت أضيعه لأن الحياة الحلوة تنتظرني خارج هذا البيت، وهذه البلد أيضًا، لكن تلك معركة أخرى.

في نفس اللحظة التي انتهيت فيها من تزيين المصباح، وصلتني رسالة من دعاء، صديقة قديمة وعزيزة جدًا. كنت أريد الاتفاق معها على ميعاد قريب، فقادنا الكلام للحديث عن أجسامنا المتعبة والمصابة وسيقاننا التي نعرج عليها، ثم فجأة بلا مقدمات قالت إنها تحبني جدًا، وإنها محظوظة جدًا أنني من دائرة معارفها القريبين.

لم أعرف بما أردّ. أردت أن أخبرها بأن، يا سبحان الله، نفس تلك الكلمات قلتها أول أمس لصديقة أخرى، طبيبة ومقرّبة لي جدًا، لا أعرف كيف سأوفيها حقها ولو كنت سأفعل أبدًا. والأكثر خطورة: كنت أشعر، قبل تلك الرسالة بخمس دقائق فقط، بأنني لا شيء ولن أعثر على الحبّ أبدًا، وفوق ذلك مفلسة.

ربما لن أتمكن من التعبير عن امتناني، لكني صنعت كيكة بالشوكولاتة، وسأقابل غدًا إن شاء الله أصدقاء رائعين، أخطط لأن أحكي لهم كل الأشياء المضحكة التي رأيتها أو فكّرت فيها -عندما ينخفض ضغطي تأتي لذهني أفكار وردود شديدة الغرابة- وأعرف تمامًا أن لديهم، في مساحاتهم الآمنة في منزلهم أو داخل قلوبهم، متسعًا هائلًا لحكاياتي الأخرى الأكثر كآبة وضعفًا ورغبة في طلب المساعدة.
.
روز
4-10-2018
Viewing all 362 articles
Browse latest View live